أسرار تأديب الرب لحبيبه وسراية آدابه في أهل السعادة ونصر الحق لأهلها
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 11 ذو القعدة 1446هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
أسرار تأديب الرب لحبيبه وسراية آدابه في أهل السعادة ونصر الحق لأهلها
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله الخالق المبدئ المعيد الفعال لما يريد، يجمع الأولين والآخرين من المكلفين في يوم الوعد والوعيد، فمنهم شقي وسعيد (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا..) –اللهم اجعلنا منهم وجميع الحاضرين والسامعين ومن في ديارهم ومن في بيوتهم– (..وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:106-108]، غير منقطع ولا منتهٍ ولا فانٍ. تلكم الغاية والنهاية.
ما يترتب على الأدب مع الله ورسوله
-
ولكن دخول النار والوقوع في الشقاء؛ مُرَتَّبٌ على فَقدِ الأدب مع الرَّب ومع حبيبه المقرب ﷺ؛ بكفر، أو فسق، أو إخلال بتعظيم للحق ورسوله، وخروج عن أمره -جل جلاله-.
-
ومنازل المُنَعَّمِين من السعداء في الجنة؛ مرتبة على قدر ما كان لهم من أدب مع الرَّبِّ -جل جلاله-، ومع عبده وحبيبه الأطيب، سيد العجم والعرب، أعلى الخلائق في المنازل والمقادير والرُّتَب، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله وآلِهِ وأَصْحَابِهِ وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين.
الطريق إلى حُسن الأدب
ويتترجم هذا الأدب في:
-
مشاعر القلوب،
-
والأدب مع شعائر علام الغيوب،
-
والتنقي عن السيئات والذنوب، وعن القبائح والعيوب،
-
والانكسار للحق -جلَّ جلاله- القائل: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي".
فاللهُ يوفِّر حظنا من هذه الآداب، ويُلحقنا بأولئكم الأحباب، يا كريم يا وهَّاب، يا ربَّ الأرباب، يا مُسَبِّب الأسباب: انظر إلى جمعنا بعين الرحمة، وألحقنا بخيرة عبادك الذين اتصلوا بعالي الجناب، وحَلَّيْتَهُم بأسمى الفضائل والآداب.
أدبني ربني فأحسن تأديبي
وإمامهم وقائدهم نبيكم يقول: "أدبني ربي فأحسن تأديبي". ومَن أحسن الله تأديبه مَن يُحيِطُ بفضائله؟ مَن يحيط بشمائله؟ مَن يُحيط بمناقبه؟ مَن يُحيط بمحاسنه؟ مَن يُحيط بجماله؟ من يحيط بكماله؟ أدَّبه الذي ليس كمثله شيء، فجعله بين الخلائق ما مثله أحد -صلوات ربي وسلامه عليه- فهو الفرد للفرد، وهو الواحد للواحد -جل جلاله وتعالى في علاه-. وجعلكم رب العرش أُمَّته! فله الحمد.
نعمة الارتباط بأهل الأدب مع الله
وجعلكم من أهل الإيمان بما بُعث به وما جاء به، فله الحمد. وجمعكم على تذكُّر دينه وشريعته ومِلَّتِه وسُنَّتِه، فله الحمد. وجعل لكم سنداً إليه من خيار المؤدبين بخير الآداب، فله الحمد.
وأوفد إليكم من يُذكِّركم بمثل هذه الآداب، مُتَأدِّب بأدَبِ أبيه، وأبوه الذي تربَّى بشيوخ الأكابر: الشيخ محمد عوَّامة، أطال الله عمره في عافية وسرور، وزيادة في النور، والنفع لأمة بدر البدور، في البطون وفي الظهور، على القدم القويم والسعي المشكور، اللهم آمين. وضاعَف البركة في أولاده وأهله وتلامذته وكتبه، وضاعِف النَّفعَ بها للعالمين، آمين.
انتشار نور الرابطة بالحبيب ﷺ
ولم تزل تلكم المواطن.. كالشام واليمن والحرمين الشريفين، ثم ما أراد الله تعالى من انتشار هذا النور يَصِلُ إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ ليَربِط برَبِّ المشارق والمغارب؛ عبر آدابِ وسنةِ سيد أهل المشارق والمغارب، أطيب الأطايب، أقرب قريب إلى القريب، وأحَبِّ حبيب إلى الحبيب، ذلكم المصطفى محمد. شرَّف الله قلوبكم بمحبته، وحققكم بها، وشرَّف الله أعينكم بالنظر إلى طلعته، وشرَّف الله أيديكم بمصافحة كفِّه، وشرَّفكم الله بلقائه على الحوض وتحت لواء الحمد، وفي الدرجات العلا في الجنة، وفي ساحة النظر إلى وجه الله الكريم.
اللهم هذه مطالبنا، فأنعم علينا بالمطالب يا مُنعِما، وزدنا منك وأكرمنا يا مكرما، وكُن لنا بما أنت أهله حيثما كنا وأينما كنا يا رب العالمين ويا أكرم الأكرمين.
بقاء إرث النبي في الوجود
وهذا السِّرُّ المصون مِن عناية مَن يقول للشيء كن فيكون، وإرث الأمين المأمون؛ باقٍ في الأمة ما دام القرآنُ موجوداً بينهم وله يقرؤون ويتلون، فضلاً من الله تعالى. وإن عمل الشيطان مع جنده من الإنس والجن سعيًا كبيرًا، وبذلوا جهداً واسعاً ليفسدوا وليضلوا وليقطعوا وليمنعوا، فلا يزال نور الله ساطعًا، وهم بكل محاولاتهم وغاية ما يصلون إليه من قوى (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].
(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ..) يأبى، (يَأْبَى اللَّهُ) بهذا اللفظ في لغة أهل العرب اللفظ المضارع، يأبى الله الذي يعني الاستمرار، وإذا هو يأبى من يكسر أمره وإرادته؟ (..وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ..).
شرف النصرة للرسول ﷺ
(..هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ..) محمد ما جاء من فكر بشر، محمد ما جاء من قومية ولا من حزبية ولا من دولة، قال أنا أنا أنا الله، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ..) المكوِّن الخالق المنشئ البارئ رب العرش، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].
-
فشرِّفنا بـ:
-
محبة هذا الرسول،
-
ومتابعة هذا الرسول،
-
والاستِنَان بسُنَّةِ هذا الرسول،
-
والاقتداء بسيدنا الرسول،
-
ونصر سنته في أنفسنا..من قلوبنا وأعضائنا، وأهالينا وبيوتنا، وأقوالنا وأفعالنا، ومجتمعاتنا وحيث ما كنا وأينما كنا، وأنت القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
اللهم فارزقنا صدقَ النصرةِ لك ولرسولك، وانصرنا وثَبِّت أقدامنا، انصرنا وثَبِّت أقدامنا، انصرنا وثبِّت أقدامنا، يا ثابِتَ المُثبَّتين، يا من يُثَبِّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثبِّتنا بالقول الثابت، ثبِّت أقدامنا، ثبِّت قلوبنا..على محبتك، على مودتك، على الإيمان واليقين بك وما جاء به رسولك، على إيثارِكَ على كل ما سواك حتى نلقاك، يا الله يا ملك الأملاك، ما لنا إله سواك..
سلالم الارتقاء في الأشهر الحُرم
يا ربنا أحيي فينا ما مات من آداب خير البريات، في رجالنا ونسائنا وصغارنا وكبارنا، واجعل مواسم الخير في الأعوام والأعمار سَلالِم نرقى عليها إلى حياة هذه السُّنَّة وإحيائها في القريب والبعيد والصغير والكبير، يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم
أشهر الحج استقبلت الأمة، والأشهر الحرم استقبلت الأمة، والموسم الكبير استقبل الأمة. وأسرار البيت والطواف به، وأسرار الصفا والمروة والسعي بينهما، وأسرار عرفة والوقوف فيها، وأسرار مزدلفة والمبيت فيها، وأسرار منى والمبيت فيها، وأسرار رمي الجمار، وأسرار أركان الحج، وأسرار واجبات الحج، وأسرار أركان العمرة وواجبات العمرة؛ سارية في القلوب الصادقة مع الحق حيثما كانوا في الوجود.
والأجساد التي تقوم بها نيابة عن الكل؛ تُستَفتح بها مفاتيح؛ لإفاضة فضل الله سِرَّ الأدب في تلك القلوب؛ لتِقرُب من الرَّبِّ، ولتُؤيَّدَ منه بتأييدٍ، وليَسرِي بها ظهور نور الحق والهدى (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة:32]. أتمم علينا النعمة، وأتمم لنا نورك، وأتمم لنا نورنا.
معنى "نورنا" أي: نصيبنا من نورك، هذا هو نورنا، أي: قسمنا وحظنا من نورك. ما فينا نور إلا نور الله، ولا مَجْلَى في الوجود لنور الله إلا محمد بن عبد الله؛ لذاكم كان أول شافع، لذاكم كان أول مُشفَّع، لذاكم كان صاحب المقام المحمود، لذاكم انطوى الأنبياء والمرسلون تحت لوائه، والله يجعلنا تحت هذا اللواء.
توافد القلوب والأرواح لموسم الحج
ففكِّر، وقد مرَّت الأيام عليك من شهر ذي القعدة وأنت تستقبل هذا الموسم، والذي يَفِدُ فيه الوافدون بأجسادهم نيابةً عن البقيَّة، وتَفِدُ فيه من القلوب والأرواح ما يكون بهم الشفاعة لكثير من الوافدين بالأجساد، ولكثير من جود الجواد على العباد في الخافي وفي الباد. ويبارك الله لنا في ذلك. وفادتهم بأدبهم معه وهم في مواطنهم. وكان يُشير إلى هذا بعض العارفين في القرون السابقة: "ورُبَّ طائفٍ بالبيتِ ورجلٌ بخراسان أقرب إلى البيت وإلى ربِّ البيت منه" هناك في خراسان؛ لأن قلبه أقرب، لأن حاله مع الرب: أدب، فهو الطوَّاف..وإن كان في بُقعَتِه، وهو الواقف وإن كان في بُقعَتِه، وهو الذي يرمي عدو الله ليلاً ونهاراً رمياً أشد من رمي الجمار. وهكذا يختار الله مَن يختار مِن أهل الأدب، وبالأدب تُرتقى الرتب.
وهؤلاء المشايخ أمتعنا الله بهم، ومَن بقي مِن شيوخنا أهل العلم يُذكِّروننا بأسرار هذا الأدب وانبساطه من تأديب الرَّبِّ للحبيب الأطيب، واختيار الله له مَن يشاء ممن أراد أن يُقرِّبَ، وممن أراد أن يصطفي، وممن أراد أن يُرافِق بهم أهل دائرة قربه، وسيدهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والسائرين في دربه. وسقَانَا الله وإياكم من شُربِه، وأدخلنا في ركبه، إنه أكرم الأكرمين.
دعاء وتوجه إلى الله
-
فاصدُرِوا النيات الصالحات للتأدُّب بالآداب النبوية في أنفسكم وأهليكم. و: "مَن فتح على نفسه باب نية حسنة فتح الله له سبعين باباً من أبواب التوفيق".
-
ونادوا الموفِّق، ونادوا المعطي، ونادوا الكريم، ونادوا الجواد، واسألوا البر الرحيم، الإله الحق الذي جعلكم في هذه الأمة، وجمعكم في هذا المجمع، ومعكم قلوب وأرواح من أهل الأرض والسماء، وكلهم متوجهون بوِجْهةِ حبيبه إليه، كلهم متوجهون بوِجْهةِ حبيبه إليه.
ونِعمَ الإله الذي لا إله غيره. أسعدنا يا ربنا، أرشدنا يا ربنا، سَدِّدنا يا ربَّنا، أيِّدنَا يا ربنا، خذ بأيدينا يا ربنا، كُن لنا في الدين والدنيا والبرزخ والآخرة بما أنت أهله يا ربنا.
اربطنا بحبيبك، لا تُفَرِّق بيننا وبينه، لا تقطع بيننا وبينه، لا تُخَلِّف أحداً مِنَّا ولا من أهلينا وأولادنا عن ركبه ودائرته وحزبه.. يا الله، حتى تجمعنا جميعا معه في دار الكرامة وأنت راضٍ عنَّا.. يا الله،.. يا الله.. يا الله.
وأعداءك وأعداءه من المغتصبين الظالمين المفترين الناشرين للسوء: اهزمهم وزلزلهم، واكفِ المسلمين جميع شرورهم، واجعل الدائرة عليهم، واجعل كيدهم في تضليل، واجعلهم كعصف مأكول، يا قويُّ يا متين، يا حيُّ يا قيوم، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفةَ عينٍ.
وأحضِروا قلوبكم وتوجهوا إلى الرب ونادوه وقولوا:
يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين ** يا أرحم الراحمين فرِّج عن المسلمين
11 ذو القِعدة 1446