(575)
(536)
(235)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 20 جمادى الأولى 1446هـ، بعنوان:
حيازة الفضل العظيم بشرف الإيمان بالله والعمل بطاعته والاقتداء برسوله
الحمد لله المتفضل المنَّان، قديم الإحسان، واسع الامتنان، الرحيم الرحمن، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، عالم السِّرِّ والإعلان. أرسل إلينا المصطفى من عدنان، مَن أنزل عليه القرآن، وخصّه بأعظم خطاب وأسنى بيان، وجعله المُقَدَّم على خلائقه في السِّرِّ والإعلان.
يا ربِّ أدم صلواتك على عبدك المجتبى المختار، جامع الصفات الحِسَان، سيدنا محمد، وعلى القلوب التي تلقَّت عنه أنوار الإيمان فكانوا صحابته، ومنهم آله الأطهار، وعلى مَن تَفرَّع منهم واتصل بهم على ممرّ الأعصار في جميع الأقطار.
واربطنا بذلك الحبل، واجعلنا من خواصِّ أهل الوصل، وثبِّتنا على أقوم السُّبُل، وهَبْ لنا عطاءك الجزل، ولا تَفتِنّا بالدنيا ولا زخرفها ولا غرورها، ولا بما فَتَنْتَ به المبعودين والمطرودين والمحجوبين من أصناف الكافرين والفاجرين والعصاة المذنبين.
اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم خذ بقلوبنا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، قوِّمنا إذا اعوججنا، وأعِنَّا إذا استقمنا، لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.
وارزقنا بركة هذه المِنَن الكبيرة، والمِنَح الوفيرة، والساعات المنيرة التي تَنفَتِح فيها كم من بصيرة، والتي ينور الله فيها كم من قلب ويُصفي كم من سريرة (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة:4].
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ..) ونعم الرسول منهم، الخاشع، المتواضع، المُتَذَلِّل، المُنِيب، الأوَّاب، المُبَيِّن، المُحسِن، صاحب الهمة الكبرى ﷺ (..يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[الجمعة:2]، فكانوا أخيَار خير أمة، وأفضل أفضل أمة، وأكرم أكرم أمة.
كانوا في ضلال مبين؛ لكن نور ربكم الذي حمله سيِّد الوجود، لكن فضل مولاكم الذي جاء به صاحب المقام المحمود، رفع الله به درجاتهم، وأعلى به منازلهم ومقاماتهم.. فصاروا خير مَن في هذه الأمة الخيرية، وأعظم مَن في هذه الأمة الخيرية.
ثم قال ربي: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)[الجمعة:3]، أي: يتأثر بهذا النور، ويتنوَّر، ويَتبَصَّر، ويتطهَّر، ويترقَّى، ويتزكَّى، ويحوز هذا التفضيل والعطاء الجزيل.. قوم لم يأتوا بعد، واحد بعد الثاني وفي عصر بعد عصر وقرن بعد قرن (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)[الجمعة:3].
ولا يأتي قرن إلا وفيه مَن يَلْحَق بهم، وفيه مَن يلحق بهم في شريف المنازل؛ من حيث التهيؤ للحشر معهم والدخول معهم إلى دار الكرامة.
فماذا في الدنيا أكبر وأجلّ وأعظم من هذا؟
وما الذي يبقى من مكاسب هؤلاء؟ وما الذي يبقى من غرور هؤلاء؟
وسمعتم ما ذكر الحق -تبارك وتعالى- أنَّ كل واحد منهم يرى أن مدة حياته وتخطيطاته وتخبيطاته ومحارباته وطلوعه ونزوله مثل يوم أو بعض يوم ومثل ساعة من نهار! وانتهى كل شيء!
جميع ما يمر على ظهر هذه الأرض من لذائذ ومشتهيات زِرْ واحد يمحيه من الأصل، زِرْ واحد يمحيه من الأصل!
إذا صُبِغ صاحبه في النار صَبْغَة واحدة نَسِي كل ذلك! كأن لم يكن ذاق حالي! كأن لم يكن نال شهوة أبداً من حين ما خُلِق!
وأكدار الدنيا وأحزانها ومشاكلها ومصاعبها لمن أدرك هذا الفضل واتصل بهذا الخير.. زِرْ واحد وتنمحي، وكأن لا شيء!
صَبْغَة واحدة في الجنة يُصْبَغ بها، يُقال: هل مَرّ بك بؤس؟ يقول: ايش من بؤس؟ أنا في نعمة منذ خلقني ربي، أنا في سرور منذ خلقني ربي، أنا في خير منذ خلقني ربي!
ينتهي كل شيء؛ فليس بشيء هذا الذي ينتهي بلحظة!
رئاساتهم وحروبهم وخططهم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)[الأحقاف:35].
ولكن أهل هذا الاتصال: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة:3-4].
يا ذا الفضل العظيم وَفِّر حظَّنا من هذا الفضل العظيم، لكل فرد في مجلسنا، ومن يسمعنا ويشاهدنا، ومن في بيوتهم، ومن في أصلابهم، وقراباتهم.. يا الله
(ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة:4].
ومن حُرِم هذا الفضل ثم جُعِل رئيس العالم -وما أحد منهم كان رئيسا للعالم- ثم جُعِل مالك جميع ما في الأرض من كنوز -ولا أحد منهم ملك جميع ما في الأرض من كنوز-؛ وحُرِم هذا الفضل؛ لكان خائباً خاسراً، ولكان في سوء المنقلب وسوء العذاب، ولكان في الخَيْبَة الأبدية!
ومَن حاز نصيبه من هذا الفضل؛ فهو النَّائل للوصل، والمُحَصِّل للعطاء الجزل، والملتقي بخاتم الرسل، والداخل إلى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133].
اللهم اجعلنا منهم يا أكرم الأكرمين.
فاعرفوا نعمة الله عليكم في إرسال محمد بن عبدالله، استشعروا نعمة الله عليكم فيما جاء به عن الله، استشعروا فضل الله عليكم فيما هداكم ودلكم وأرشدكم وعلمكم!
سُنَّة مِن سُنَنِهِ خير من الدنيا وما فيها..
والله العظيم سُنَّة مِن سُنَنِهِ خير من الدنيا وما فيها!
فالله يرزقنا حُسن الاقتداء بهذا النبي، وحسن الاهتداء بهذا النبي؛ حتى ينالنا الاصطفاء باصطفاء الله لهذا النبي.
يا حيُّ يا قيُّوم يا غني، يا جواد يا كريم يا سخي: ارزقنا حسن المتابعة لحبيبك في جميع ما نعتقد ونفعل ونقول وننوي، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
حتى تُدركوا من خِلَعِ المجالس وما فيها من المَآنِس؛ ما تُوَاصَلون به في الدنيا قبل الآخرة؛ بلذائذ القرب من حضرة الله، ولذائذ المعرفة بالله، ولذائذ المحبة من الله والمحبة لله، والمحبة من رسول الله والمحبة لرسول الله، ولذائذ الرضوان!
ولا شيء ألذ من رضوان الكريم المَنَّان، لا شيء أعظم من رضوان الرحمن، لا شيء أجمل من رضوان ربي! لا شيء أحلى من رضوان إلهي! (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)[التوبة:72].
يا رب وفِّر حظَّنا، واجعل حظَّ كل واحد مِنَّا حظًّا أوفر من هذا العطاء الأكبر، يا من يعطي ولا يبالي، يا مولى الموالي.. يا الله
عَلِمَ ذلك مثل أولئك الصحب الكرام.. سَبَق منهم -مَن زُرنا ضريحه قبل يومين- الذي كان سببا لغزوة مؤتة، سيدنا الحارث بن عمير الأزدي -عليه رحمة الله- قابل الحبيب، واستقبل النور الرحيب، والعطاء العجيب؛ فامتلأ بالإيمان واليقين، وحَمَل الرسالة من سيد الأكوان؛ لتُدفَع إلى هرقل ملك الروم.
وجاء، والتقاه في تلك المواطن بعض الكفرة من أرباب الحقد على الدين والهدى وعلى الرسل، قال: لعلّك من رسل محمد؟ قال: نعم أنا رسول رسول الله. قال: فاكفر به. قال: لا والله! قال: فسُبَّه؟ قال: لا والله! قال: لأقتلنك. قال: افعل ما بدا لك. حتى قتلوه وصلبوه ثم حُمِل ودُفِن في هذا المكان.
ولا يزال المكان الذي قُتل فيه ما يقربه أحد إلا ويحسّ بوحشة شديدة! لِمَا فيه فُعِل!
ولم يُقتَل لرسول الله ﷺ رسول إلا هذا؛ لأنه كان من أعراف الدول وأعراف القبائل وأعراف الشعوب أنه ما يُقتل رسول! مَن جاء رسولاً من أي جهة ما يُقتَل، ولم يُقتل له رسول إلا هذا -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-
وقال: اللهم بلِّغ عني نبيك. وثبَت وصبَر، واُستِشهد في سبيل الله -عليه رضوان الله-
وإذا بالرسالة التي حملها يتجدَّد شأنها ومفعولها في الأمة إلى اليوم!
بلَّغ الرسالة وقام بحقها -عليه الرضوان-، وإن قُتِل.
يُخبرنا القائم في المكان عنده، يقول: يَصِل إليه الناس من مختلف أقطار الأرض، ووصل قريباً إليه بعض السائحين وكانوا غير مسلمين جاءوا فجلسوا، قال وتكلم هو وإياهم عنه وأسلموا كلهم، وراحوا إلى بلدانهم، وإلى الآن يتواصلون معه بعد هذه الزيارة لهذا الرسول؛ رسول رسول الله ﷺ!
وكان رضي الله عنه السبب في قيام الغزوة..
ولمَّا بلغ النبي هذا الخبر نَدَب الصحابة وأمرهم بالسَّيْر، وعيَّن عليهم هؤلاء الأمراء الثلاثة، وأخبر أنهم سيُقتلون. قال: "يحمل الراية زيد بن حارثة، فإن أُصيب فيأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فإن أُصيب فيأخذ الراية عبد الله بن رواحة".
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى..
واحد من آل البيت، وواحد من المهاجرين، وواحد من الأنصار.. رؤوس الأُمَّة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-
وهم محبوبون لدى المصطفى ﷺ، وفراقهم يَشُق عليه، ولكنه هيَّأهم بهذا التَّحَمُّل وهذا البذل، وهذا القتل في سبيل الله؛ للقاء الأبدي، وللعطاء السرمدي -عليهم الرضوان-.
كان يقول بعض اليهود لسيدنا عبدالله بن رواحة: تُصدقون بأنه النبي؟ قال: هو رسول الله! قال: ستُقتَل. قال: أعلم. وقد قال قبلك زيد وجعفر وأنت، قال أعلم ذلك، فإن النبي لو سَمَّى عشرة أو مائة وقال إن أُصيب وأُصيب فسيُصَابون ويقتلون!.
-عليه رضوان الله تبارك وتعالى-
وخرج بإيمانه ويقينه مع القوم، وحمل الراية بعد أن قتل-عليه رضوان الله تبارك وتعالى- سيدنا زيد بن حارثة فقتل، فحمل الراية بعده سيدنا جعفر بن أبي طالب، فقُطِعَت يده اليمنى، فحَمَل الراية باليسرى وأخذ يقاتل.. والراية محمولة بيده اليسرى واليمنى مقطوعة وهو يُقاتل! فقُطِعَت اليسرى فاحتضن الراية بالعضدين وضمَّها، وثبَت محلّه يُقاتل! لا يد يمنى ولا يسرى.. والراية بالعضدين! وهو ثابت في المعركة يُقاتل!
ويقول ابن عمر كما في البخاري: وجدنا في جسده بضعاً وتسعين ضربة، ما بين طعنة برمح أو ضربة بسهم، وكلها فيما أقبل من جسده ليس في جنبه ولا في ظهره منها شيء!
كلها فيما أقبل لأنه لم يلتفت أصلا -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-!
فلمَّا سقط على الأرض وهو مُحتضن الراية بالعضدين ناداهم: احملوا الراية حتى لا تسقط، فجاء سيدنا عبدالله بن رواحة وحملها، وانتحوا به ناحية من الجيش، قدّموا له الماء قال: لا إني صائم!
هذا الجهاد وهذه الطعنات وهو صائم..! قالوا فأفطر تصوم يوماً آخر، قال: أشتهي أن أفطر في الجنة! أشتهي أن أفطر في الجنة..! وحقق الله له مراده.
والحبيب ﷺ في المدينة المنورة رفع رأسه وعنده مجموعة من الصحابة سمعوه يقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأخذ يتكلم..فنَكَّسُوا رؤوسهم.. وكمَّل حديثه ﷺ، قالوا: من تخاطب يا رسول الله؟ قال: هذا جعفر بن أبي طالب وقف عليّ في نفر من الملائكة يُسَلِّمُ عليّ، قد أبدله الله مكان يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
والأُمَّة ما تعرف (طَيَّار) في ذاك الوقت! عندنا طيَّار.. لكن الطيار حقنا ما هو من بلدة إلى بلدة في الغلاف الجوي لهذه الأرض.. فوقها كلها "يطير بهما في الجنة حيث شاء"!
-عليه رضوان الله تبارك وتعالى-
ودخل ﷺ ذاك اليوم إلى بيت سيدنا جعفر قال: هاتوا لي أولاد جعفر، فجاءوا إليه ؛ محمد وعبد الله وعون، فأخذ يقبلهم وتدمع عيناه، قالت أسماء بنت عميس -زوجة سيدنا جعفر-: هل بلَغك شيء أو أصيب جعفر يا رسول الله؟ قال: نعم، اُستِشهد في سبيل الله، فاصبري واحتسبي. ودعا لهم ولهؤلاء الأولاد، وخرج ﷺ يقول: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما شغلهم".
وكان وقت المعركة مع جماعة من أصحابه يقول: "الآن حمل الراية زيد بن حارثة" وهو يقاتل، وحصل كذا وكذا وكذا، الآن قُتل.."الآن" ينقل إليهم نقلا مباشرا ﷺ!
قال: "والآن حمل الراية جعفر"، يقول مضى إلى مكان كذا، وتقَدَّم إلى كذا، قابله كذا كذا، ناله كذا، طُعِنَ بكذا، الآن قُطِعَت يده اليمنى، حمل الراية باليسرى، ولم يزل.. ويَقدُم نحو الجيش، قال: والآن قُطِعَت يده اليسرى، واحتضن الراية بالعضدين، ثم قال: والآن وقع على الأرض وحُمِل!
يصف لهم المواقف ﷺ، طويت له المسافة وشاهد المعركة وما فيها؛ لمكانتها عند الله.
وكانت بوابة الفتوحات الإسلامية التي جاءت كلها، وكانت أول قتال بين المسلمين والكفار في خارج جزيرة العرب؛ فكانت بوابة الفتوحات لهؤلاء القوم الصادقين المخلصين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-
ولما قُتِل سيدنا عبدالله بن رواحة حمل الراية بعض الصحابة، واجتمع كبارهم وأمَّروا سيدنا خالد بن الوليد، فحمَل الراية، وخطَّط للجيش ترتيبا جديدا، وفي اليوم الثاني اندحر القوم وفرّوا! مائتي ألف أو مائتين وخمسين! والمسلمون ثلاثة آلاف!
فَرُّوا وغَنِمُوا منهم كثيرا، وقتلوا منهم كثيرا، ولم يُستشهد من المسلمين إلا بضعة عشر، أربعة عشر أو احدى عشر رجلا فقط!
وعادوا إلى المدينة المنورة.. ووصلت الأخبار إلى المدينة، وبعد قالوا: لِمَ يرجع خالد بالجيش؟ لِمَ لَمْ يُتابعهم؟ هؤلاء فُرَّار! من قوة إيمان الصحابة وهمتهم في نصرة الدين.. فلما أقبلوا أخذوا يرمونهم يقولون: يا فُرَّار يا فُرَّار! فأوقفهم النبي ﷺ وقال لهم: "لا، ليسوا بفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله".
"ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله" عليهم رضوان الله تبارك وتعالى..ومضى هذا الأمر..
كيف يقابل ثلاثة آلاف مائتي ألف أو مائتين وخمسين ألف! والثلاثة الآلاف أسلحتهم معدودة، وقوتهم محدودة! وأحدث الأسلحة في ذاك الزمان وأكثرها تطورا مع أولئك المئات الألوف! ولكن لم تفدهم شيئا (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة:249]، (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:160].
توكلنا على الله، وآمنا بالله، وسألنا الله ينصر الحق وأهله ويجعلنا من أهله، ويرد كيد الكفار والفجار، وأعداء المِلَّة، وأعداء الدين، وأعداء الشريعة، وأعداء الإنسانية، وأعداء العدل، وأعداء الخير للأمة، الله يرد كيدهم في نحورهم، ويجعلهم عبرة للمعتبرين، ويجعلهم -سبحانه وتعالى- موعظة للمتعظين.. يا حيُّ يا قيُّوم.
واجعلنا في مجمعنا نرقى إلى جمعيتنا عليك؛ حتى نَقرُبَ منك ونصل إليك، تربطنا بحبيبك ربطا لا يَنْحَلُّ أبدا، وتجعلنا بقربه في الدارين من أسعد السعداء.. يا الله
ولم يجمعنا الله عَبَثا، ولا أقام هذه المجامع بواسطة الحبيب محمد عبثا، ولا لعبا، ولا هزؤا، ولا هزلا؛ ولكن هذه ذوات الرايات المنشورة فوق السماوات والمنشورة في البرازخ والمنشورة يوم القيامة؛ ليُسعِد الله مَن شاء، وليُقَرِّب مَن شاء، وليُطَهِّر مَن شاء، وليُنَقي مَن شاء، ولِيَنْتَقي مَن شاء، ولتقوم الحُجَّة على من أدبر، وعلى من تولى، وعلى من أعرض، وعلى من لم يعرف قدر الرسالة، ولم يعرف قدر الرسول ولا قدر المُرسِل؛ الإله الحق الذي أرسله -سبحانه وتعالى-
فالله يملأ قلوبنا بالإيمان واليقين، ويوفر حظنا من هذه الرسالة وسرّها، وهذه المجالس وما فيها وفضلها، وجوده على أهلها.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، وأحيِ فينا سنن نبيك، وهدي آله وصحابته، والصالحين من عبادك، وثبِّتنا على ذلك الدَّرْب، وأدخلنا في ذلك الحزب، واكشف عنَّا وعن الأمة كل كرب.
يا كاشف الكروب، يا دافع الخطوب: تُب علينا لنتوب.
ووفِّر حظَّنا من الليالي والأيام، وما فيها من الخيرات العِظَام، ولا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين.
وكُلّنا إلى الله نتوب وإليه نؤوب، ونسأله غفران جميع الذنوب، وستر جميع العيوب، والتوفيق في باقي العمر لِمَا يحبه مِنَّا ويرضى به عَنَّا؛ حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، إنه أكرم الأكرمين..
ونتوجَّه إليه أجمعين:
يا توَّاب تُب علينا ** يا توَّاب تُب علينا ** وارحمنا وانظر إلينا
21 جمادى الأول 1446