حقيقة ما ينتفع به المكلفون في هذه الحياة ويكسبون به السعادة
محاضرة العلامة الجبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، في دار المصطفى، ليلة الجمعة 27 شوال 1446هـ بعنوان:
حقيقة ما ينتفع به المكلفون في هذه الحياة ويكسبون به السعادة
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله، محيي القلوب برحمات الغيوب، والفَضلِ السَّكُوب، والجود الذي لا يحسِبه حاسب ولا يحصره حاصر، سبحان المَلِك الفاطر، الأول الآخر، الباطن الظاهر، خالق السماوات وما فيها، والأرضين وما فيها، وما بينهما، وكلها عجائب دلالات على عظمته، ودلالات على كبريائه ورِفعته، ودلالات على واحديَّته وأحديته، ودلالات على كرمه ورحمته، ودلالات على أنَّ كُلَّ شيء في يده وقبضته، ودلالات على أنَّ مرجع كل شيء إليه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:104].
أنفع ما يجد الإنس والجن على وجه الأرض
ثم لا يجد المكلفون من الإنس والجِنِّ على ظهر الأرض في مدة حياتهم التي يقضونها عليها؛ أجمعَ ولا أنفعَ مما شَرَع لهم، ومما بيَّن لهم، ومما هداهم إليه، ومما دلهم عليه، ومما أحبه منهم.. في الأقوال، والأفعال، والنيات، والمقاصد، والمعاملات، والأخذ والعطاء، والفعل، والترك.. في جميع الشؤون، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
فلا يحصل حقائق الانتفاع لأحد من هؤلاء.. إنساً وجناً، أفراداً ولا جماعات؛ إلا بحسب ما وافقوا فيه شرع مُكَوِّن الأرض والسماوات، وما بَعث به إليهم رسله وأنبياءه -صلوات الله وسلامه عليهم- (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].
محمد سيد الكونين
وقد خُتِموا بسيدهم، وبإمامهم، وبعظيمهم، وبأمينهم، وبمُقَدَّمِهم..
محمد سيد الكونين والثقلين ** والفريقين من عُربٍ ومن عَجَمِ
نبيُّنا الآمر الناهي فلا أحدٌ أبرَّ ** في قول "لا" منه ولا "نعم"
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته ** لكل هَوْلٍ من الأهوال مقتحمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون به ** مستمسكون بحبل غير منفصمِ
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ** من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته ** بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
_____
فحمداً لربٍ خصَّنا بمحمدٍ ** وأخرجنا من ظلمةٍ ودياجرٍ
إلى نور إسلامٍ وعلمٍ وحكمةٍ ** ويُمنٍ وإيمان وخير الأوامرِ
وطهَّرنا من فعل رجسٍ وخبثه ** وظلم وشرك واقتحام الكبائرِ
اللهم أدم صلواتك على هادينا إليك ودالِّنا عليك، حبيبك المحبوب، طِبِّ الأجسام والقلوب، سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن والاهم وعلى منهجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، معادن الهدى والحق والأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
نتائج ما يتحصل من الحياة القصيرة
واجعل كُلًّا من الحاضرين والسامعين والمشاهدين منتفعاً أعظم الانتفاع بما أوحيتَ إلى هذا النبي، وما بعثتَ به هذا الخاتمَ المرسلَ؛ حتى نتحَصَّل في حياتنا هذه القصيرة.. من الجواهر الكبيرة، والسعادات الدائمة الأبدية الخطيرة، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ونتَحصَّل على أعلاها وأسناها.
فإن الحياة تمرُّ بالجميع: المقبل والمدبر، والمؤمن والكافر، والمتأدب والمجترئ السفيه.. تمر على الكل، لكن والله النتائج مختلفة، والعواقب مختلفة، والجزاءات مختلفة..
-
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]،
-
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21]،
-
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]،
-
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
اللهم ألحقنا بأولي الألباب، وارزقنا العمل بما في السُّنةِ والكتاب، واربطنا ربطاً يقوى في كل نفس بسيّد الأحباب، اللهم آمين يا ربَّ الأرباب، يا مُسَبِّبَ الأسباب، يا غفور يا تواب، يا من يعطي ويرزق بغير حساب، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
حال المؤمن والمعرض في مختلف الظروف
وهذه الاستفادات في الأيام والأشهر والليالي والمواسم التي تمر بهم، بل والأحوال والظروف التي تمر بهم، فيما بينه ﷺ يقول: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له".
المؤمن في جميع الأحوال:
-
على أدب مع الكبير المتعال،
-
على رضاً بما قدَّر وقضى،
-
على اتباعٍ لسُنَّةِ حبيبه النور الذي أضاء ﷺ،
-
على تسليم،
-
على صراطٍ مستقيم،
-
على قلب سليم،
فهو رابح، فهو فائز، فهو تاجر، وهو مُحَصِّل للخيرات.
والمُعرِض عن الله -تبارك وتعالى-:
-
يلهث وراء المطامع الفانيات،
-
وكل الأحوال ما بين كبرياء وبين غطرسة،
-
وما بين استهزاء بآيات الله وبأحد من خلق الله،
-
وما بين جزع وتبرُّمٍ وسخطٍ بقضاء الله -تبارك وتعالى-،
وكلها سوء في سوء، وعواقبها وخيمة وسيئة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فما أحسن الاستمساك بالعروة الوثقى! (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256]، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ..)
مرجعية السوء إلى إبليس
(..وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة:257].
وتراهم من أقل فاسق إلى من فوقه إلى من فوقه -وكُلًّا يقتدي بمن فوقه- إلى أن تنتهي الرئاسة إلى إبليس.. يقود دول، ويقود جماعات، ويقود أحزاب كثيرة، بعضهم يندرج في بعض، وهذا الرأس حقهم، هذا الرأس الخبيث الذي خلقه الله تعالى اختباراً، اختباراً للعباد المكلفين. وهو الذي قال: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف:17-18]، وخرج يقوم بمهمته هذه، إلى حَدِّه المحدود، وإلى يوم يبعثون (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [ص:36-38]. ويَهْلَك كما يهلك مَن قبله، ويجتمع الجميع في القيامة..
المستمسكون بحبل الله
ويبقى على ظهر هذه الأرض المستمسكون بحبل الله والمعتصمون به، والذين يُطَبِّقون منهج الله في أنفسهم وأهليهم وأولادهم؛ لا يغرهم دعوات أهل الشرق ولا أهل الغرب، من كل منقطع الله -جل جلاله- ولا ما يُزَيِّنونه، ولا ما يزخرفونه من قول وغير ذلك.
وهم الذين قال الله عنهم:
-
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27]،
-
ويقول سبحانه: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116]،
-
وينصُّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران:100]. يسلبونكم أعزَّ شيء عندكم، أشرف شيء لديكم، أعظم شيء تُحَصِّلون به السعادة يسلبونه منكم (يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
يقول الله: ولِمَ تصل بكم الحالة إلى هذا المستوى؟ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101]. ويقول في الآية الأخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ..) إلى وراء، إلى وراء.. في ثرواتكم، في اجتماعياتكم، في أخلاقياتكم، في مسيركم، في سياساتكم، في اقتصادكم: إلى وراء (.. يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ..) فإذا آمنتم وصدقتم به، يجري في هذا الوجود ماذا؟: (..سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران:149-151].
رأس أهل جنة الله ورأس أهل النار
-
فمرجع أهل الخير فينا، من كل مسلم مؤمن له مرجعية يرجع إليها من الأخيار، يندرجون في بعضهم البعض، ومعهم الملائكة الذين وُكِّلوا بإلهام الخير وإلقائه في القلوب والصدور، إلى أن تتصل هذه القيادات بهم إلى رأسهم وهو محمد ﷺ. فهذا رأس حزب الله، رأس أهل جنة الله، رأس المقبولين عند الله، رأس المؤمنين بالله.
-
وذاك رأس الكافرين والعاصين والمنافقين والمشركين، أمَّا رأس هؤلاء الكفرة والفجرة الذي خطَّط وزيَّن لهم ما يعملون وما يُنفذون (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم:83]. ولذا ترى تصرفاتهم كيف تكون في الحياة، قال تعالى: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:84-86]. -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
فهؤلاء كلهم في مرجعيتهم يرجعون إلى مُزيِّنِ السوءِ لهم.. وهو إبليس.
نتائج الفريقين في الآخرة
فإذا جاءت القيامة كان كلام قائدنا وإمامنا: "أنا لها:، و: "أنا أول شافع وأول مُشفَّع"، و: "أمتي أمتي"، ﷺ، و: (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].
وكان كلام قائدهم الثاني هذا الذي يقودهم: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم:22].
كم فرق بين هذا وهذا؟! هذا يقول: "أنا لها" ﷺ، وذا يقول: روحوا مالكم! من قال لكم تتبعوني؟ روحوا! (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم..) ولا أنا نافعكم ولا أنتم نافعي (..مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22]. وهو وإياهم في النار مرة -سويًا- يتوهدرون - يتورطون للأبد فلايخلصون منها- ولا فيه فائدة، ولا أحد يفيد الثاني منهم. وظهرت الحقائق، فيَا ويلٌ من اتبع أعداء الخالق! ويا ويلٌ مَن مشى مع من يخالف خير الخلائق! (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]. -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
فوز أهل الاتِّباع
ويفوز أهل هذا الاتباع الذين خَّص الله تعالى واديَكم منهم، بكم من نجمٍ وكم من سراجٍ وكم من شعاع
ثبَتوا على قدم الرسول وصحبِه ** والتابعين لهم فسَلْ وتتبَّعِ
ومضوا على قصد السبيل إلى العُلا ** قدماً على قدم بجِدٍّ أروعَ
قومٌ إذا أرخى الظلام سُدُولَه ** لم تُلفِهم رُهن الوِطاء والمضجعِ
بل تلقهم عُمُدَ المحاريبِ قوَّمًا ** لله أكرم بالسجود الرُّكَّعِ
يتلون آيات القرآن تدبُّرًا ** فيه ولا كالغافل المتوَزِّعِ
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].
اللهم اجعلنا من أولي الألباب، الواعين للخطاب في الكتاب، والمتابعين لسيد الأحباب، والمتخلقين بما له من أخلاق، والمتأدبين بما له من آداب، يا كريم يا وهَّاب
طلب اغتنام الحياة الطيبة
يا الله: نوِّر هذه القلوب لتستنير بنور الذكر الحكيم وبلاغ السراج المنير، يا سميع يا بصير، يا لطيف يا خبير، يا عليم يا قدير، يا من إليه المصير، يا حيُّ يا قيُّوم، يا مَن له المُلك وهو على كل شيء قدير.
يا الله.. يا الله: حياةٌ ما أسرع انقضاءها.. ارزقنا الاغتنام فيها، ارزقنا أشرف الغنائم منها:
-
أن نغنَم الرابطة بحبيبك المصطفى،
-
أن نُقيم بيوتنا وأُسرنا وأصحابنا وأحبابنا على ما تُحب وكما تحب، خُلقاً وقولاً وفعلاً، وعادةً وأخذاً وعطاءً، ومحبةً وبغضاً، وقبولاً ورفضاً.. على الميزان الذي بعثتَ به خيرَ إنسان، وقلت: (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ..)
كل يوم يجيبون لكم فكرة، كل يوم يجيبون لكم خطة، كل يوم يجيبون لكم نظاما، كل يوم يجيبون لكم قانونا ملعوبا به فاسدا، وتتركون الشريعة وتتركون النور المُضيء! (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) [الرحمن:8-10]. قال الله أنا الذي وضعتُ الأرض ورفعت السماء، فمَن هذا غيري يغرّكم ويأتي لكم بنظام ويأتي لكم بمنهاج؟ وتنسون أوامري ونواهيّ! وأنا الله الخالق الذي خلقتكم! (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس:60-61]. قال عن إبليس: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف:50].
استبدَلوا ولاية الله ورسوله بولايةِ إبليس عدو الله وعدوهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-! الذي يضحك عليهم في الدنيا!. وكان سيدنا عبد الله بن عباس إذا قرأ الآية: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم:22]، قال: ضحك عليهم في الدنيا ويضحك عليهم في القيامة! كلها خديعة وكذب (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء:120]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-!
لكن الله وعدنا وعد الحق، وعدنا وعد الحق، قال -جلَّ جلاله-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ..)، الحياة الطيبة ما توزعها الدول، الحياة الطيبة ما لها وجود في مصانعهم ولا في أسلحتهم، الحياة الطيبة من عند المحيي المميت، يُحيي الحياة الطيبة من آمن وعمل الصالحات (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
وهكذا سُنَّةُ الله في هذه الحياة -كما ذكرها الشيخ علي بن أبي بكر السكران في عقيدة الحق-: وأنَّ خيرَ الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وأن شرَّ الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته، "..وأنَّ السّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها وأنَّ اللهَ يبعَثُ من في القبورِ".
فالحمد لله على سطوع هذا النور، وعلى اجتماع هذه القلوب في الوجهة إليه، على قدَمِ البَرِّ الشكور، حبيبِه المصطفى محمد، من جاءنا بالهُدى والبيِّنات والنور ﷺ، وقال ربُّنا عنه: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) [المائدة:15-16].
اللهم كُنْ شُغلَنا وَلَا تَشْغَلْنَا بِسِوَاك، اجعل شُغلَنا أنت، واجعل مُرادَنا أنت، واجعل محبوبَنا أنت، واجعل مقصودَنا أنت، يا من لا معبود إلا هو، يا من لا مقصود إلا هو: لا تجعل لنا قصداً في سواك، واستعملنا واشغلنا بما تُبَّلغنا به غاية رِضاك، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
لك نظرات، فانظر إلينا في مجمعنا، وانظر إلى مَن يُشاهدنا ويَسمعنا، يا رب نظرة تزيل العناء عنَّا، وتُدني المنى مِنَّا، وكلَّ الهناء نُعطاه في كل حين. نظرة تردُّ بها كيد المعتدين والظالمين، ناشري الفساد والضُّر والشر والمَيْسِر والخمور والخنا والفواحش، وناشري الحروب والكروب والظلم، وقتل النساء والأطفال والاعتداء على الصغار والكبار.. رُدَّ كيدهم في نحورهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم..
يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا مُنشئ السحاب، يا هازم الأحزاب: اهزمهم وزلزلهم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم، وانشر "لا إله إلا الله" في المشارق والمغارب، أنقذ أمة نبيك محمد، اجعلنا في خيار أمة نبيك محمد.
اللهم لا تجعل في المجمع ولا من يسمع أحدًا إلا نظرتَ إليه، يا من له في كل يوم وليلة ثلاثمائة وستون نظرة؛ إذا أصابت العبد منها نظرةٌ سَعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبدًا : مددنا أيدينا إليك، وتذللنا بين يديك، وتوجهنا إليك بأكرم الخلق عليك، اللهم انظر إلينا، اللهم انظر إلينا، اللهم انظر إلينا، يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين..
ألا يا الله بنظرة من العين الرحيمة ** تُداوي كُلَّ ما بي من أمراضٍ سقيمة
ألا يا الله بنظرة من العين الرحيمة ** تُداوي كُلَّ ما بي من أمراضٍ سقيمة
26 شوّال 1446