عهد الله وميثاقه وصلة الحج وأعمال الشريعة به
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، بعيديد، مدينة تريم، 25 ذو القعدة 1446هـ، بعنوان:
عهد الله وميثاقه وصلة الحج وأعمال الشريعة به
في خطبة الجمعة، يؤكد الحبيب عمر بن حفيظ على أهمية العهود والمواثيق بين الإنسان وربه الخالق، مشيراً إلى أنه لا يوجد عهد أعظم وأوثق من عهد الله، ويوضِّح أن الله أرسل الأنبياء ليجددوا العهود مع المكلفين، واختار النبي محمد ﷺ ليكون خاتم الأنبياء، وبعثه بالهدى ودين الحق، وبشريعة تحكم حياة المكلفين، ويؤكد أن "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي مفتاح صحة العلاقة بين المكلف وربه، وهي بوابة الدخول إلى الإسلام ومفتاح الجنة.
ويشير إلى أن الله جعل تجديد هذا العهد والميثاق في الصلوات الخمس المفروضة، وفي الصيام والزكاة والحج، حيث يُعد الحج مظهراً عظيماً من مظاهر العهد مع الخالق، وشعار أهله "لبيك اللهم لبيك" ويذكر العشر الأوائل من ذي الحجة التي أقسم الله بها في القرآن، وهي أفضل أيام الأرض وأعظمها ثواباً للعبادة، ويحث على التسبيح والتكبير والتهليل فيها. وفي الختام يدعو الله أن يرزق الأمة حفظ العهد والميثاق، وحسن الخلق وإقامة الشرع، وأن يبارك للأمة في هذه الأيام المباركة، وأن يرد كيد المعتدين والظالمين.
فوائد مكتوبة من الخطبة
لتحميل نسخة pdf

نص الخطبة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، الحمد لله بارئ الوجود، وجامع الأولين والآخرين إلى اليوم الموعود.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استوى في علمه الغيب والشهود، كُل من سواه فهو عبدٌ وهو الواحد المعبود.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود.
اللهم أدِم صلواتك على عبدك المختار سيدنا محمد سيد أهل الشهود، وعلى آله وأصحابه الركع السجود، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الوفاء بالعهود، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا بر يا ودود.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله.
العهود والمواثيق مع الله :
أيها المؤمنون بالله، عهودٌ بيننا وبين الإله الخلّاق، ومواثيقُ بيننا وبين الإله الذي كَوَّن الأكوان كلها وطبّق الأطباق.
أيها المؤمنون بالله، لا يمكن أن يوجد عهد أعظم من عهد الله، ولا ميثاق أوثق من ميثاق الله تعالى في عُلاه، ولقد أخذ الله علينا العهود والمواثيق:
-
ألا نعبُد الشيطان فإنه لنا عدو مبين،
-
وأن نعبد الحق الواحد، ذلكم صراط مستقيم.
-
وأخذ علينا العهد والميثاق: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).
-
وأخذ علينا العهد مُشترياً منا أنفسنا وأموالنا: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
تجديد الأنبياء للمواثيق:
ولقد أرسل الله النبيين يُجدّدون العهود مع المكلفين بينهم وبين ربهم رب العالمين، ومكوِّن الخلق أجمعين، وجامعهم في يوم الدين، ومُحاسبِهم على ما كان منهم ولو على النقير والقطمير. (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم).
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).
الشهادتين والأحكام الشرعية:
ثم جعل الله تعالى رأس الميثاق والعهد شهادةَ أن لا إله إلا هو، وأن نؤمن بكتبه ورسله وملائكته وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره منه جل جلاله وتعالى في علاه.
جعل هذا الأساس، وجعل ما في الشرائع على أيدي الأنبياء وهو النظام الذي يحكُم حركة المُكلَّف في هذه الأرض وفي هذه الدنيا، وينظم مساره تحت قانون ونظام: واجبٌ مفروض، ومندوبٌ مُستحب، ومباح حلال، ومكروه، وحرام محظورٌ يجب اجتنابه.
على ضوء هذا القانون الإلهي والنظام الإلهي، جاءت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بِوَحي الله لهم في كل الأزمنة التي هم فيها إلى الأقوام الذين بُعثوا إليهم بما هو أصلح وأنجح.
بعث خاتم الأنبياء محمد ﷺ:
وخَبَأ الله الختمَ للنبوة والرسالة في محمد وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وبتجديد العهد والميثاق، وبنظام وشريعة تحكمُ حركة المكلفين على ظهر الأرض لا خير لهم في غيرها، وكل ما خالفها فهو سوء وشر وضر في الدنيا وفي الآخرة.
فربّ الدنيا والآخرة اختار محمداً وأنزل عليه النظام للمؤمنين والمكلفين إلى يوم القيامة، لا يجدون منهجاً خيراً منه، ولا أقوم، ولا أعدل، ولا أحكم، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وأعان عبده المصطفى سيدنا محمد على البيان والبلاغ في خلال ثلاثة وعشرين عاماً، ملأ الأرض نوراً وهدىً، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فكان من عظيم معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وتركنا على المنهج القويم والصراط المستقيم، لكل صادق وكل ذي قلبٍ سليم، وكل مريد للاهتداء والثبات على الصراط المستقيم.
فصلى الله على عبده الهادي إليه والدالّ عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وجعلنا وإياكم ممن سار في دربه، ونشر لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله ودعا إليها وجعلها فاتحة صحة وحسن العلاقة بين المكلّف وبين ربه جل جلاله، وهي بوابة الدخول إلى الإسلام، وهي مفتاح الجنة يُدخَل بها إلى دار الكرامة والهناء، وهي أفضل شعب الإيمان وأعلاها. "الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبةً، أعلاها قولُ لا إله إلا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ".
تجديد الميثاق بالصلوات الخمس والوضوء:
ثم جعل الرحمن لنا في الشريعة تجديدًا لهذا العهد والميثاق بيننا وبينه جل جلاله في الصلوات التي فرضها علينا، خمسُ صلوات في اليوم والليلة، ميثاقٌ وعهدٌ بيننا وبين الله، نُجدِّد فيها الإيمان، ونقيم فيها قراءة الفاتحة في القيام، ونُجدّد الشهادة لله بالتوحيد ولسيدنا محمد بالرسالة في التشهد.
وجعلها سبحانه وتعالى عهداً مكيناً، مُقوّماً للقائمين بها على الوفاء بالعهد في بقية شؤون الحياة، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
أيها المؤمنون بالله، وما تعلق بالصلاة متعلِّق بالعهد والميثاق، من طهارة عن الحدث الأصغر والأكبر، وطهارة عن النجاسات.
نُجدِّد العهد بعد كل طهارة استحباباً وندباً، ينال صاحبه إذا قام به أن تُفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
"من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال : أشهد أن لا إله َ الا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ".
الحج مظهر كبير من مظاهر للعهد والميثاق :
وفي الصيام، وفي الزكاة، وفي الحج الذي هو مظهر كبير من مظاهر العهد والميثاق بيننا وبين الخلّاق، شعار أهله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، جل جلاله وتعالى في علاه، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
أيها المؤمنون بالله، وجعل الله تعالى في العهد القديم الذي كان منا في عالم الأرواح، إذ أخرجنا من ظهر أبينا آدم ونادانا: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، كتب كتاباً وألقمه الحجر الأسود، فهو يشهد لمن استلمه بالموافاة يوم القيامة، مستودع العهد والميثاق؛ الحجر الأسود في ذلكم الركن من البيت الحرام.
وفود الحجاج تأتي وفاء بالعهد :
أيها المؤمنون بالله جل جلاله، ويفد الوافدون من أمة سيدنا محمد إلى تلكم المشاعر وفاءً بالعهد، ونيابة عمّن في ديارهم من أهاليهم وقراباتهم، وعمن في بلدانهم من أهل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فكان مما يُستحب عند استلام الحجر: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهـدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
حجة الوداع :
وقد حج بعد الهجرة حجة واحدة هي حجة الوداع، ودّع فيها الأمة، وبيّن الملة والأحكام والشرائع، صلوات ربي وسلامه عليه، وأنزل عليه فيها قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
خاتمة الخطبة الأولى:
اللهم ارزقنا حفظ العهد والميثاق، والتخلُّق بأحسن الأخلاق، والقيام بأمر الشرع على ما تُحِب في قدم الاتِّباع لحبيبك المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في جميع الشؤون، في الظهور والبطون، يا أكرم الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً تُنَوَّر به القلوب وتتهيأ لِحُسن الوفاء بعهد علام الغيوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده غفر الذنوب وكشف الكروب وستر العيوب، وإليه الأمر كله يؤوب.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه المحبوب.
اللهم صلِّ وسلِّم على الهادي إلى أقوم الدروب سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن إليه منسوب، وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يومٍ تُقلَّب فيه القلوب.
وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا علام الغيوب.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله.
مرور الأيام تذكرة لنا :
اتقوا الله أن تغفلوا في أيامكم ولياليكم عن عهده وميثاقه، فما جُعلت الأيام إلا تذكرةً وتبصرةً؛ لتتذكروا وتشكُروا موفينَ بعهد الحق الحي القيوم.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
استقبال العشر من ذي الحجة :
أيها المؤمنون، توديعكم لشهر ذي القعدة واستقبالكم للعشر من ذي الحجة، ليال أقسم الله بها في القرآن، وأيام أخبر عنها رسول الله أنها خير الأيام وأفضل أيام الأرض وأعظم ثواباً للعبادة.
أيام العشر من ذي الحجة، يعقبها يوم النحر، والأيام المعدودات.
فتأتي الأيام المعلومات، العشر الأول من ذي الحجة، ثم الأيام المعدودات وهي أيام الأضحية مع يوم العيد: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة الحرام.
أعمال العشر من ذي الحجة :
أيام ليس من أيام الدنيا العمل الصالح أحب إلى الله سبحانه وتعالى منه فيهن، فإنها أيام التسبيح والتكبير والتهليل، أيام الاتصال بالوفاء بعهد الله جل جلاله.
سُنّ لنا التكبير في أول يوم من أيام ذي الحجة كلما وقع نظرنا على إبل أو بقر أو غنم.
الأضحية وآدابها :
وسُنّ لنا أن لا يتناول من أراد أن يُضَحّي شيئاً من شعره ولا من أظفاره، من أول يوم من ذي الحجة حتى يُضَحّي.
قال بوجوب ذلك الإمام أحمد وبعض أصحاب الشافعي، وقال الجمهور من الشافعية وغيرهم أن ذلك سنة ومستحب، لم ينص عليه الحنفية، واستحبه بقية الأئمة أن لا يمس شيئاً من ظفره ولا من شعره إذا أراد أن يضحي حتى يضحي، لأن في الأضحية والذَّبحة باسم الله ولله ولوجه الله, قربة إلى الله تعالى.
ما من عمل صالح في يوم العيد أحب إلى الله من دم يُهرق من أجل الله تعالى بذبح الأضاحي من إبل أو بقر أو غنم مجتمعة فيها الشروط.
سلالم للارتقاء لساحات القرب من الله :
أيها المؤمنون، أيام تُذكِّرنا بعهد الله وميثاقه، المُتصل بتعظيمنا لشعائر الله ولدينه، وأن لا يلهينا لاهٍ ولا يشغلنا شاغل عن أخذ العلم والتفقه في الدين، وعن حسن العمل به، وعن القيام بالواجبات في البيوت والأسر، وأن لا نوالي أعداء الله ولا من كفر بالله، (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا).
أيها المؤمنون بالله، منهاج قويم وصراط مستقيم، يُنزِل الناس منازلهم، ولا يفتح باب اعتداء ولا ظلم ولا إبطال حق لذي حق، ولكن إقامة لشرع الله ومنهج الله، لا يجوز فيه ولاء الكافرين، ولا ولاء مَن حادّ الله ورسوله ولا مودتهم، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
فاتقوا الله في أيامكم ولياليكم، وتجديدكم العهد والميثاق بينكم وبينه؛ بالأعمال الصالحات، وأخذ الفقه في الدين والعمل به، وتعظيم شعائر الله، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).
بثوا ذلك في أهاليكم وأولادكم، واغتنموها سلالم ترتقون عليها إلى ساحات القرب من رب العالمين، ونيل معرفته ومحبته وحيازة رضوانه جل جلاله وتعالى في علاه، ورضوان من الله أكبر.
خاتمة الخطبة الثانية :
اللهم بارك للأمة في هذا الموسم العظيم والأيام المباركة، وارزقهم الوفاء بالعهد الذي عاهدتهم عليه، ورُدّ عنهم كيد المعتدين الظالمين الغاصبين والمفسدين والمنافقين وأرباب السوء، رد كيدهم عن أهل لا إله إلا الله، واجمع شمل أهل لا إله إلا الله.
واقبل القائمين بالأعمال الصالحة من الوافدين إلى الحج وزيارة نبيك المصطفى، ومن العاملين بالخير في شرق الأرض وغربها، ومن المجاهدين في سبيلك، وارزقهم أن لا يكون لهم قصد إلا أن تكون كلمتك هي العليا، وارزقهم الإخلاص والصدق، ورد كيد المعتدين الظالمين المفترين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم واشغلهم بأنفسهم، واكفِ المسلمين جميع شرورهم يا حي يا قيوم.
واصرفنا من جمعتنا هذه ثابتي القدم على الوفاء بعهدك، ظافرين بمحبتك وودك، حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أكرم الأكرمين.
وأكثروا الصلاة والسلام على سيد أهل الوفاء بالعهد والميثاق، حبيب الخلاق، عظيم الأخلاق، سيدنا محمد المصطفى الهادي إلى أقوم الصراط، المنقذ من الزيغ والضلال والشرك والكفر والاختلاط والاختباط، فإن صلاتكم عليه نور لقلوبكم ورحمة من ربكم، تثبتون بها على الوفاء بعهده، ولقد قال: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
و"إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً".
ولقد قال الله تعالى مبتدئاً بنفسه، ومثنّياً بملائكته، ومؤيهاً بالمؤمنين، فقال سبحانه تكريماً وتعظيماً لقدر محمدٍ وتفخيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، عبدك البشير النذير سيدنا محمد،
وعلى الخليفة من بعده المختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالَي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى من استحيت منه ملائكة الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة.
وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضى وأمهات المؤمنين.
وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والرجس. وعلى أهل بدر وأهل بيعة العقبة وأهل أُحد وأهل بيعة الرضوان.
وعلى سائر أصحاب نبيك الكريم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء :
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعِز الإسلام والمسلمين، اللهم أذِل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألِّف ذات بين المؤمنين.
اللهم اقبل الحجاج والعُمّار، وفدك ووفد رسولك وزائري نبيك، والمجاهدين في سبيلك والساعين في الخير، والقائمين بحق العلم والعمل به وبالتربية والدعوة إليك.
اللهم خُذ بأيديهم وتولهم في ظاهرهم وخافيهم.
اللهم اقبلهم وأقبل بوجهك الكريم عليهم، وانصر بهم دينك القويم وصراطك المستقيم ومنهج نبيك وسنته وما بعثه به إلينا يا حي يا قيوم.
اللهم ارفع الشدائد عن أمة نبيك محمد، اللهم انشر النور والهدى في أمة نبيك محمد، اللهم أصلح أمة نبيك محمد، اللهم اجمع شمل أمة نبيك محمد.
اللهم وفِّقهم للاهتداء والاقتداء والوفاء بالعهد فيما خفي وفيما بدا يا حي يا قيوم، تولنا بما أنت أهله وأصلح الشأن كله.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله ان الله امر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
26 ذو القِعدة 1446