كشف الغمة 268- كتاب الجنائز ( 6) غسل الشهيد

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 268- كتاب الجنائز ( 6) غسل الشهيد

صباح السبت 25 رجب 1446

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها :

  • خروج حنظلة إلى غزوة أحد وتغسيل الملائكة له
  •  شهيد الدنيا والآخرة
  •  حكم غسل شهيد الدنيا رياء وسمعة 
  •  تمني الشهيد أن يعود للدنيا 
  •  يشفع الشهيد في 70 من أهل بيته
  •  6 خصال للشهيد عند الله 
  • الشهداء 3 أقسام
  • حديث: أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش 
  • هل يُغسل الشهيد إذا كان جنب؟ 
  • حكم غسل من قُتل ظُلما دون ماله أو عرضه
  • أحكام الشهيد الذي لا يُغسل 
  • أعلى الشهداء عند الله شهداء المحبة 
  • هل يصلى الجنازة على الشهيد؟ 
  • قصة أعرابي رد غنيمة النبي ﷺ 
  • زيارة شهداء أحد 
  • الصلاة على شهداء فلسطين
  • هل تغسل نجاسة غير الدم؟
  • حكم تكفين الشهداء بنفس الثياب وماذا يُنزع
  • دفن أكثر من واحد في قبر واحد
  • صلى علي على عمار وقد قتلته الفئة الباغية 
  • بيان وفاة رسول الله ﷺ وغسله

نص الدرس المكتوب :

"ولما قتل حنظلة -رضي الله عنه- وهو جنب قال ﷺ: إن صاحبكم لتغسله الملائكة، وكانت زوجته تقول: لما سمع حنظلة الهائعة خرج مسرعًا ولم يتمهل حتى يغتسل. قال أنس -رضي الله عنه- واكتفى النبي ﷺ بغُسل الملائكة ولم يأمرنا بغسله. قال ابن عباس: وكانت الصحابة يغسلون من قتل في غير معركة الكفار ظلمًا، وغسل عمر وعلي وعثمان -رضي الله عنهم- وقد ماتوا مقتولين، وكذلك غسل عبد الله بن الزبير غسلته أسماء وماتت بعده بثلاثة أيام، وصلى عليّ -رضي الله عنه- على عمار وغسله وقد قتله الفئة الباغية، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: وضرب رجل من الصحابة رجلًا من المشركين فأصاب نفسه فمات، فلفَّهُ رسول الله ﷺ بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه فقالوا: يا رسول الله أشهيد هو؟ قال: نعم وأنا له شهيد. قال أنس -رضي الله عنه-: "ولما توفيت ابنة رسول الله ﷺ دخل على النساء وهن يغسلنها فقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها واغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، وضفرن شعرها ثلاثة قرون، فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه فقال: "أشعرنها إياه"، والحقو هو الإزار.

قالت عائشة -رضي الله عنها- ولما مات رسول الله ﷺ وأرادوا غسله اختلفوا فيه وقالوا والله لا ندري كيف نصنع أنجرد رسول الله ﷺ كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فأرسل الله عليهم السِّنَة حتى والله ما من القوم من رجل إلا وذقنه في صدره نائمًا ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو فقال: اغسلوا النبي ﷺ وعليه ثيابه. قالت عائشة -رضي الله عنها- فثاروا إليه فغسلوه ﷺ وهو في قميصه، يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بدنه ﷺ من فوق القميص، وكان آخر كلامه ﷺ جل جلال ربي الرفيع فقد بلغت، ثم قضى نحبه ﷺ وَغُسِّلْ ﷺ من بئر غرس وهي من عيون الجنة، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى آخر السير، والله أعلم." 

 

  اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ،  كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن 

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته، وبيانِها على لسان خيرِ بريته، عبده وصفوته سيدنا محمد بن عبد الله  وبارك وكرم عليه أفضل صلواته وتسليماته، وعلى آله وصحابته، وعلى من والاه ومشى على طريقته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمن في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر ما يتعلق بتجهيز الميت.

قال: "ولما قُتِل حنظلة -رضي الله تعالى عنه-، -وهو الذي اشتهر بينهم بغسيل الملائكة- وهو جُنُب، قال ﷺ: إن صاحبكم لتغسله الملائكة، وكانت زوجته تقول: لما سمع حنظلة الهائعة -أي: نداء للجهاد- خرج مسرعًا ولم يتمهل حتى يغتسل"، وذلك في أيام زفافه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. فهذا المؤمن الموقن الشاب اللي تزوج في أيام زفافه، وفي أول ليلة دخل على أهله، وسمع النداء بالخروج في الجهاد، فخرج مباشرة إلى أُحُد قبل أن يغتسل. 

وقد جاء أيضًا في سيرته أنه لما أراد أن يخرج، قالت له زوجته: قف مكانك؟ قال: مالكِ؟ قالت : أشهد من حوالينا أنك أتيتني، قال: وما يضرك ما تريدين من ذلك؟ قالت: حتى إذا استشهدت وحملت من بعدك لا أُتَّهَم. وكانت قد رأت رؤية أن السماء انفتحت ودخلها زوجها حنظلة، فعلمت أنه سيُقتل شهيدًا، فأشهد الجيران وتوجه، فحمِلِت منه، وجاءت بولد مبارك، وخرج قبل أن يشتغل بتغسيل نفسه من الجنابة؛ حتى لا يتأخر عن رسول الله  في الجهاد، ودخل المعركة فقُتِل، فرأى النبي  ملائكة تغسله بماء المُزن، فعجب، فقالوا: لماذا تغسله الملائكة؟ قالوا: اسألوا أهله؛ فأخبر أنه مات جُنُبًا.

وهكذا جاء أيضًا الاختلاف في تغسيل الشهيد، وإن كان جُنُبًا أو لم يكن جُنُبًا، بين الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

"وقال أنس -رضي الله عنه- واكتفى النبي ﷺ بغسل الملائكة ، -أي: لسيدنا حنظلة- ولم يأمرنا بغسله". 

"قال ابن عباس: وكانت الصحابة يغسلون من قتل في غير معركة الكفار ظلمًا"، لأن الشهادة على أقسام، فشهادة دنيا وآخرة:

  • ومعنى شهادة الدنيا: أنه يُجرى عليه أحكام الشهيد؛ من حيث أنه لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه، لما ورد من أمره  بذلك. 

  • ومعنى شهيد الآخرة: أنه يكون في مرتبة الشهداء عند الله، ويحق له ما لهم من الأجر والمكانة. 

  • والشهداء من غير الصديقين أفضل من بقية عموم صالح المؤمنين. قال تعالى: (فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ)[النساء: 69]. 

  • وأما إذا كان الصديق شهيدًا أو النبي شهيدًا، فذلك في أعلى الدرجات. وإن كان شهيدًا ولم يبلغ رتبة الصديقية، فهو أفضل من عموم الصالحين من المؤمنين غير الصديقين، الذين لم يبلغوا درجة الصديقية.

إذا فالشهيد الذي شهد له الله وملائكته بالجنة على لسان رسوله ، والذي حضر بقلبه وروحه في الوجهة إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا الشهيد إما شهيد دنيا وآخرة كما ذكرنا، وهو الذي قُتِل في معركة الكفار بسبب القتال، وإما أنه شهيد دنيا فقط، وهو الذي قُتِل في معركة الكفار بسبب القتال، لكن لا لتكون كلمة الله العليا، بل رياء أو سُمْعَة أو غلَّ غُلولًا وما إلى ذلك، فهذا شهيد في الدنيا أي لا نغسله ولا نصلي عليه، ولكنه ليس عند الله بشهيد، وما له في الآخرة من شيء، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

 

وأما شهيد الآخرة فقط فهذا كثير؛ شهداء آخرة فقط وعامتهم عند جمهور الفقهاء يغسلون ويصلى عليهم كالمقتول ظلمًا. 

إذاً فللشهيد المنزلة العالية عند الرب -جل جلاله-، كما جاء به الكتاب: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَيَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران 169-171]، ويقول سبحانه وتعالى: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 66]

وقال ﷺ: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء -ما أحد من الذين يموتون فيدخل الجنة؛ أي: يكون من أهل الجنة ويراها، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ولو كان له جميع ما على الأرض من شيء، أي شيء على الأرض، لا يرضى أن يرجع- قال: "إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة"، من كرامة الشهادة عند الله، كما جاء في الصحيحين قال: "إلا الشهيد أن يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة"، لما يرى من كرامة الشهادة عند الله تبارك وتعالى".

  • وهكذا يقول : "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" كما جاء عند أبي داود وابن حبان، وجاء في رواية: "كلهم قد وجبت له النار"، أي: السبعين من أهل بيته؛ من قبيلته وجماعته، وجب استحق دخول النار فيشفع فيهم فلا يدخلون النار.

  • ويقول في رواية الترمذي، قال الترمذي: حديث صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر الله له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة وقت قتله، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من العذاب الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور، ويشفع في سبعين من أقاربه". هذا للشهيد الذي هو عند الله شهيد، سواء قُتل في المعركة أو من الشهداء الذين يموتون على فرشهم فله هذا.

إذاً فالشهداء ثلاثة أقسام: 

  • شهيد دنيا وآخرة؛ الذي قتل في معركة الكفار بسبب القتال، وكان قصده لتكون كلمة الله هي العليا، هذا شهيد دنيا وآخرة. 

  • والثاني: شهيد في الدنيا فقط؛ وهو الذي قتل في معركة الكفار بسبب القتل؛ ولكنه لم يكن قصده على كلمات الله -جل جلاله-، أو كان من أهل الغلول والغنيمة، فهذا ما له شهادة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- إلا في الدنيا، الدنيا نعده من الشهداء، وربما سمّاه الناس شهيد ولا ينفعه ذلك، ولا يغسل ولا يصلى عليه. 

  • وأما شهيد الآخرة فقط فهذا:

    • المقتول ظلمًا من غير قتال، هذا شهيد آخرة.

    • الميت بداء البطن -مرض البطن- ،شهيد آخرة.

    • الميت بالطاعون.

    • ميت بالغرق، الغريق شهيد. 

    • الميت في الغربة شهيد. 

    • طالب العلم إذا مات في طلب العلم شهيد، بل إذا صح قصده في طلب العلم، وجاءه الموت ويطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة، ومعناه يرقى مع رتبة الصديقين، يعني: بعد النبوة مباشرة؛ إذا قصده يحيي الإسلام بالعلم ومات وهو يطلب العلم. كثير من الموفقين من الصالحين عند الاحتضار أمر من يقرأ عنده، قال: ويستمع، يقول: حتى يموت وهو يطلب العلم، وبعضهم يقول: حط الكتاب، حط الكتاب فوق صدري، يفتح عيونه يقعد في السكرات يطالع ومات؛ ليكون في أعلى صوره جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، -عليهم رضوان الله تعالى- وسبحان الموفق.

    • والنفساء التي تموت في طلقها بسبب الولادة.

    • قالوا: يستثنى من الغريب من كان عاصيًا بسفره، فهذا ما هو شهيد؛ كذلك الغريق إذا كان عاصيًا بركوب البحر فهذا ما هو شهيد، وهكذا. 

 

وفي الحديث: "الشُّهداءُ خمسةٌ : المطعونُ والمبطونُ والغرِقُ وصاحبُ الهدمِ والشَّهيدُ في سبيلِ اللهِ" يعني: في القتال، أي من جملة الشهادة وهم كثير. وقال: "الطَّاعُونُ شَهادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"، في الصحيحين. ويقول ﷺ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ عِرضِهِ فهوَ شَهيدٌ" وقال مرة: "ما تعدون الشهيد فيكم؟" قالوا: يا رسول الله من قتل وهو يقاتل الكفار فهو الشهيد. قال: "إذن شهداء أمتي قليل". قالوا: "فمن الشهيد؟" قال: "المبطون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب الهدم شهيد..". وذكر لهم الشهداء  وأنواع من الشهداء في أمته، بل قال في الحديث: "أكثر شهداء أمتي أصحاب الفُرُش". يعني: لما نأتي في القيامة، الذين ينالون مراتب الشهداء من هذه الأمة بواسطة القتال في معركة الكفار قليل بالنسبة لبقية الشهداء، فشهداء الفُرُش كثير، "إنَّ أكثرَ شهداءِ أُمَّتِي أصحابُ الفُرُشِ ورُبَّ قتيلٍ بين الصفَّيْنِ اللهُ أعلمُ بنِيَّتِهِ".

 

فالمقتول في قتال الكفار بسبب القتال لا يُغسل. قال  في شهداء أُحد: "ادفنوهم بدمائهم" رواه البخاري. 

  • وهكذا عليه جماهير أهل العلم.

  • إلا ما يُروى عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب أنه يُغسل الشهيد.

  • وإلا بقية العلماء لا يُغسل هذا المقتول في معركة الكفار بسبب القتال. 

ولو كان الشهيد جنبًا؟: 

  • أبو حنيفة والحنابلة يقولون: يُغسل إذا كان ثبت أنه جنب. 

  • يقول صاحبا أبي حنيفة وجمهور المالكية والشافعية: لا يُغسل ولو كان جنبًا، لعموم الخبر -الملائكة بتغسله-، ولما أثبت  تغسيل الملائكة لسيدنا حنظلة، قال: "رأيتها تغسله بماء المُزن" بماء السحاب بين السماء والأرض، سُمي بغسيل الملائكة -عليه رضوان الله تعالى-، وهو من شهداء أُحد، الله أكبر.

  • وقال جمهور الفقهاء: أنه لا فارق بين البالغ وغيره، فمن كان في المعركة عاد عليه سلاحه فقتله؛ ومن قتل ظلمًا أو دون ماله أو نفسه فهذا أيضاً يقول الجمهور أنه يُغسل، واعتبروه من الشهداء. فالذي قُتل في معركة الكفار أو وُجد ميتًا في مكان المعركة وبآثار جراحة ودم هذا لا يُغسل. وجاء في رواية النسائي يقول عن شهداء أُحد: "زَمِّلُوهُمْ -أي: غطوهم- بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ"،  "فإنَّهُ ليسَ كلْمٌ يُكلَمُ -يجرح جرحًا- في اللَّهِ إلَّا يأتى يومَ القيامةِ يَدمَى لونُهُ لونُ دمٍ وريحُهُ ريحُ المسْكِ"

  • يقول المالكية والشافعية: أن المسلم إذا قُتل بسبب قتال الكفار حال قيام القتال لا يُغسل، سواء قتله كافر أو أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد اليه سلاحه سقط عن دابته أو رمحته دابة وهم في أثناء القتال فمات، ووُجد قتيلاً بعد المعركة، فقرينة الحال تدل على أنه قتل بسبب القتال، ولا فرق في هذا بين رجل والمرأة، والحر والعبد، والبالغ والصبي.

  • قال الحنفية: 

    • يُغسل كل مسلم قُتل بالحديد ظلمًا وهو طاهر بالغ، ولم يجب عوض مالي في قتله؛ فإن كان جنبًا أو صبيًا أو وجب في قتله قصاص فإنه يُغسل. 

    • وإن وُجد قتيلاً في المعركة، فإن ظهر فيه، قال الحنفية: اشترطوا يظهر فيه أثر الجراحة والدم فحينئذ لا يُغسل؛ إذا كان ظهر في موضع غير معتاد دم مثل العين ونحوه. وأما ما عدا ذلك مثل خروج دم من الأنف، فقد يخرج حتى من الميت من دون القتال فحينئذ عند الحنفية يُغسل.

 

علمنا هذا يقول الحنابلة: لا يُغسل الشهيد مُطلقًا، سواء كان مكلفًا أو غيره، إلا إن كان جنبًا أو امرأة حيض أو نفساء طهرت، فيقولون يُغسل. وكذلك إن سقط من دابته أو وُجد ميتًا ولا أثر به -عند الحنابلة- أو سقط من شاهق في القتال أو رفسته دابة فمات منه فعندهم يُغسل؛ هذا عند الحنابلة.

أما الشافعية والمالكية قالوا: لا.

 

  • أما من قتله لصوص أو بُغاة فهو يُغسل ويكفن هو شهيد في الآخرة. 

  • أما الغريق والمبطون والمرأة التي تموت في الولادة، فهؤلاء الشهداء الأُخر يُغسلون بالاتفاق، ما أحد قال لا يُغسلون، يُغسلون بالاتفاق ولكنهم عند الله شهداء. بل جاء في بعض الأذكار يقرأها المريض في مرضه فيموت فيُعد شهيدًا عند الله تعالى.

 

ويقول أهل المعرفة والذوق إن أعلى الشهداء عند الله شهداء المحبة، وهم الذين بلغ بهم شوقهم إلى الرب وحبهم للإله مبلغًا فقطع قلوبهم فماتوا شوقًا؛ هذا أعظم ممن مات بسيف أو سلاح، مات بسيف المحبة -شوقًا وحبًا لله- هؤلاء أعلى الشهداء عند الله، لا إله إلا الله.

كذلك الصلاة عليه، هل يصلى عليه أم لا؟

  • الحنفية: يرون الصلاة عليه وإن كان شهيدًا، واستدلوا بعموم رواياتهم النبي ﷺ صلى على حمزة، صلى على شهداء أحد.

  • وحمله الجمهور على أنه مطلق الدعاء لا الصلاة المعهودة؛ قال الحنفية: يُصلى عليه.

وجاء رجل من الأعراب إلى النبي ﷺ، فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك؛ فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي ﷺ سبيًا، فقسمه وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، لا يوجد في الخيمة من يرعى إبل القوم، فلما جاء دفعوا إليه، قال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي، أخذه وجاء به إلى عند النبي، قال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، فأنا ما آمنت بك وخرجت معك ومهاجر لكي تعطينا مثل هذا، هذا ليس غرض هذا، ليس قصد؛ ما على هذا اتبعتك، قال: فعلى ما اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أُرمى إلى هنا، وأشار إلى حَلْقِه بسهمٍ، فأموت فأدخل الجنة، اتبعتك لأني أخلد في دار الكرامة والجنة، فقال ﷺ: "إن تصدق الله يصدقك". قال: فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فَأُوْتِى به النبي ﷺ يُحْمَل، قد أصابه سهم حيث أشار بإصبعه إلى حَلْقِهِ، فقال النبي ﷺ: "أهو هو؟" قالوا: نعم يا رسول الله نفس الرجل، السهم في المحل الذي أشار إليه، قال: "صدق الله فصدقه"، قال: ثم كفنه النبي ﷺ في جُبَّتِهِ وقدَّمه فصلى عليه. حمله الجمهور على أنه دعا له. والحنفية قالوا: صلى عليه.

 فكان فيما ظهر من صلاته، هذا دليل على أن الصلاة المراد بها الدعاء، كان فيما ظهر من صلاته: قال: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا على ذلك شهيد" الله أكبر، أخرجه النسائي وصححه. ويا فوز هذا الرجل، الله شهد له بالهجرة والشهادة من زين الوجود ﷺ -الله أكبر-، إذا كان من شهد له من المسلمين بالخير قبل الله شهادتهم وغفر له، فكيف بشهادة حبيب الرحمن؟ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وجاء أيضًا عن عقبة بن عامر يقول: خرج يومًا ﷺ فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر؛ حمله الجمهور على أنها دعاء. وقد كان جاء أيضًا في الرواية أنه ﷺ كان على رأس كل حَوْلٍ يخرج إلى شهداء أحد، وكان يدعو لهم، فبقي خلال هذه السنوات يخرج في شوال فيزورهم، وكانت المعركة في شوال.

إذًا:

  • قال الحنفية: بالصلاة على الشهيد.

  • قال المالكية: يحرم الصلاة عليه، ما يجوز صلاة على شهيد.

  • وكذلك يقول الشافعية: يحرم غسل الشهيد والصلاة عليه، لأنه حيٌ بنص القرآن.

 وجاء أيضًا في قتلى أحد في البخاري عن سيدنا جابر أن النبي ﷺ أمر في قَتْلَى أحد بدفنهم ولم يغسلوا ولم يصلّى عليهم، وقال: "زملوهم بدمائهم ولا تصلوا عليهم". قال: إرادة أن يلقوا الله -عز وجل- بِكُلُومِهِم: بجروحهم، أن ريح الكَلْمِ في القيامة ريح المسك واللون لون الدم؛ فاستغنوا بكرامة الله -تعالى عز وجل- لهم عن صلاة الناس عليهم.

وقال ﷺ: "ليس شيءٌ أحبَّ إلى اللهِ من قطرتَيْن وأثرَيْن : قطرةُ دموعٍ من خشيةِ اللهِ ، وقطرةُ دمٍ تُراقُ في سبيلِ اللهِ ، وأمَّا الأثران فأثرٌ في سبيلِ اللهِ ، وأثرٌ في فريضةٍ من فرائضِ اللهِ عزَّ وجلَّ". فهذه أحب الأثار إلى الله وأحب القُطَر عند الله.

 

وهكذا: يرى جمهور الحنابلة حُرْمَة غسل الشهيد، والصلاة عليه في أصح الروايتين، أيضًا لا يُصلى عليه وفي رواية عندهم  يُصلى عليه مثل الحنفية، يُصلى على الشهيد. 

هذا يحمل عمل الناس عندما كانوا يصلون على شهداء فلسطين، إلا يأتي الإشكال في كونهم يُغَسَلُون، وهم أيضًا يغسلون.

  •  ولكن على قول عند الحنابلة ومعتمد الحنفية: يُصلى عليه.

  •  يقول المالكية والشافعية والمعتمد عند الحنابلة؛ إذا كان الشهيد عليه نجاسة غير دم الشهادة تُغسل عنه، وكذلك الحنفية كلهم من الأئمة الأربعة، يقولون: إذا كان هناك نجاسة أخرى غير دم الشهادة فيُغسل، وإن تعرض لإزالة بعض دم الشهادة من أجل تَطْهِيرُهُ عن النجاسة.

وهكذا أيضًا التكفين ينبغي أن يكون في نفس ثيابهم التي استشهدوا فيها، يكفنوهم في ثيابهم.

ولذا كان يقول سيدنا عمار وزيد بن صوحان عند تعرضهم للقتال: لا تنزعوا عني ثوبا، إلا يُنزع عنهم الجلود والسلاح والفرو والحشو والخُف وما إلى ذلك أو مَنطقة -أي: ما يشد به الوسط؛ الحزام- بعد ذلك يلقون ربهم في الثياب التي استشهدوا فيها.

يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يُدفنوا بدمائهم وثيابهم"، فهذه الأشياء ليست من جنس الكفن، ثم يجوز أن يُزاد في أكفانهم أو يُنتقص على أن لا يخرج عن كفن السُنَّة، يقول سيدنا خباب إن حمزة -رضي الله عنه-: لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر" رضي الله عن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.

  •  وقال المالكية: إذا سترته الثياب التي مات عليها فلا يزاد عليها -تمنع الزيادة- فإن لم تستره زيد عليها، هكذا.

  •  يقول الحنابلة: إن الشهيد يجب دفنه في ثيابه التي قُتل فيها، إنما يُنزع السلاح والجلود.

  • وقال الشافعية يُندب تكفينه في ثيابه التي مات فيها.

 قال الحنابلة واجب، قال الشافعية يُسن أن يبقى نفس ثيابه امتثالًا للأمر.

يقول سيدنا جابر -رضي الله عنه-: رُمي رجل بسهم في صدره أو قال: في حَلْقِهِ فمات فأُدرج في ثيابه، كما هي أو كما هو ، قال ونحن مع النبي ﷺ.

أما شهداء غير المعركة مثل؛ الغريق والحريق والمبطون؛ فيُكفن مثل بقية الموتى كما يُصلى عليه.

ولا يُدفن أكثر من واحد في قبر إلا لضرورة، كما كان في يوم أحد مثل ضيق المكان أو تعذر الحفر، لأنه ﷺ كان يُدفن كل ميت في قبر واحد، ولكن لما كثرت الجروح عند الصحابة في أحد، والقتلى سبعين كان يُدفن الاثنين والثلاثة في قبرٍ واحد، فإذا جِيء بهم إليه قال: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهم قدمه وجهة القبلة وجعل الثاني وراءه، وبيده الكريمة قبر السبعين كلهم ﷺ.

قال: "وصلى عليّ -رضي الله عنه- على عمار وغسله وقد قتله الفئة الباغية"، هؤلاء يُغسلون، قال: والنص في الحديث قال:" وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ"، من قديم من أول الهجرة ما زالوا يبنون المسجد النبوي أول وصوله إلى المدينة، بعدها جلس أربعين سنة سيدنا عمار، كان يحملون الحجر من أجل بناء المسجد، ويحملون يحملون عليه اللبنتين اللبنتين، ورآه النبي فالتفت نظر قال يا رسول الله تراهم يحملوني لبنتين؛ أنهم يقتلوني؟! قال: لا إنما تقتلك الفئة الباغية، ما هم بقاتليك؛ إنما تقتلك الفئة الباغية بعد أربعين سنة، قُتل مع سيدنا علي، فحق ما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وسيدنا علي غسله صلى عليه.

إذًا الشهداء -هو شهيد من غير شك- ولكن مهما كان الشهداء في غير قتال الكفار، هذا قتال بُغَاة يُغسلون ويُصلى عليهم.

قال :"ابن عمر -رضي الله عنهما- وضرب رجل من الصحابة رجلًا من المشركين فأصاب نفسه فمات فلفَّهُ رسول الله ﷺ بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه فقالوا: يا رسول الله أشهيد هو؟ قال: نعم وأنا له شهيد".

قال أنس -رضي الله عنه-: "ولما توفيت ابنة رسول الله ﷺ دخل على النساء وهن يغسلنها فقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها واغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو قال شيئًا من كافور وضفرن شعرها ثلاثة قرون فإذا فرغتن فآذنني -أي: أعلمنني- فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه -أي: إزاره- فقال ﷺ أشعرنها إياه "،معنى أشعرنها: أي ما يلي بدنها، الشعار ما يلي البدن، والدثار فوقه، قال: "أشعرنها إياه " صلَّ الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والحقوه: الإزار، "حقوه" إي: إيزاره.

"قالت عائشة -رضي الله عنها- ولما مات رسول الله ﷺ وأرادوا غسله اختلفوا فيه وقالوا والله لا ندري كيف نصنع أنجرد رسول الله ﷺ كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فأرسل الله عليهم السٍّنة -ناموا- حتى والله ما من القوم من رجل إلا وذقنه في صدره نائمًا ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو" -ويُقال: إنه سيدنا الخضر عليه السلام- "فقال: اغسلوا النبي ﷺ وعليه ثيابه"، "فثاروا إليه فغسلوه ﷺ وهو في قميصه يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بدنه ﷺ من فوق القميص، وكان آخر كلامه ﷺ -قبل وفاته جل- جلال ربي الرفيع" ويقال: إنه أول كلمة نطق بها في صِبَاه عند حليمة، وهو ابن أشهر؛ ثماني أشهر قال: "جل جلال ربي الرفيع، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا".

 وهي أخر كلمة قالها "جل جلال ربي الرفيع فقد بلغت"، نشهد أنه بَلَغْ ﷺ، ونشهد أنه أحسن البلاغ ﷺ، وأدى الأمانة على التمام ﷺ، "ثم قضى نحبه ﷺ وغُسًِل ﷺ من بئر غرس" بئر غرس من الأبآر التي كان يحبها ويقول: "إنها من عيون الجنة".

قال: "وسيأتي بسط ذلك أخر كتاب السير إن شاء الله تعالى"

رزقنا الله الإقتداء والإهتداء واتباع نبي الهدى فيما خفي وفيما بدا، وجعلنا ممن ترعاهم عين عنايته في جميع الأطوار، ورفعنا مراتب القرب منه مع عباده الصالحين الأخيار، في ألطاف وعوافي ظواهر وفرج كروب الأمة، وكشف الغمة، وأزاح الظلمة، وعامل بمحضر جود والرحمة، وحول الأحوال إلى أحسنها، وأحسن لنا النصيب من ذكرى معراج نبينا وإسرائه، وَوَفَّرْحظنا من خاتمة هذا الشهر ، ومن شهر شعبان، جعل زيارة النبي هود في عامنا من أبرك وأسعد وأصفى وأوفى وأهنى وأجل وأجمل وأكمل الزيارات، وأنفعها للأمة، وأدفعها للبلايا والآفات عنهم ظاهر وباطن ، في خير ولطف وعافية.

بسرِّ الفاتحة  

إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

28 رَجب 1446

تاريخ النشر الميلادي

26 يناير 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام