شرح الموطأ -261- كتاب العقيقة: باب ما جاء في العَقِيقَة

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة.
فجر الأحد 19 صفر 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْعَقِيقَةِ.
1445 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْعَقِيقَةِ، فَقَالَ: "لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ". وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ الاِسْمَ، وَقَالَ: "مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ".
1446 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، وَزَيْنَبَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ، فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةً.
1447 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ: وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَتِهِ فِضَّةً.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرِمنا بالشريعة، وبيان أحكامها على لسان عبده مُحمد بن عبد الله ذي المراتب الرفيعة. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيدنا مُحمدٍ وعلى آله وأصحابه الحصون المنيعة، وعلى مَنْ تبعهم بإحسان واقتدى بهم في كل شأن، وعلى آبائه وإخوانه من الانبياء والمرسلين أهل الوجاهات الوسيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
ويذكر الإمام مَالِكْ -رضي الله تعالى عنه- في الموطأ كِتَابُ الْعَقِيقَةِ، وأصل الْعَقِيقَةِ تُطلق في اللغة على أشياء:
-
منها نوعٌ من الجوهر والخرزة الغالية، وبعض أنواع من غالي الودع ونحوه يقال له عقيقة.
-
ومنه الشعر الذي يكون على الرأس ينبت في بطن الأم للإنسان والبهيمة يقال له عقيقة، الشعر الذي يخرج به من بطن أمه، لأنه يزال عنه في ذلك اليوم أيضًا.
-
ومنه ما يطلق أو أطلق هذا الاسم خصوصًا في عُرف الشرع على النسيكة والذَبيحة تُذبح على المولود.
-
ومنها ما يطلق على نفس الوليمة فيقال لها عقيقة.
-
كما يطلق هذا العقيق على نوع أيضًا من الفصوص، من غاليات الفصوص يقال له العقيق.
-
وكما يطلق العقيق على الوادي المبارك الميمون الذي صحَّ في الحديث أنه قال ﷺ: أتاني آت ٍمن عند ربي وقال لي صلِّ في وادي العقيق فإنه وادٍ مبارك.
فاشتركت العقيقة في هذه المعاني. وهي مما جاءت به السُّنة الشريفة؛
-
فهي عند الأئمة الثلاثة سُنَّة مؤكدة.
-
وفي رواية عن الإمام أحمَدْ أنها واجبة، والمعتمد في مذهبه أنها سُنَّة.
-
إنما قال بالوجوب الحسن البصري، وداود الظاهري: للمستطيع أن يعقَّ عن مولوده على سبيل الوجوب.
-
وقال الحَنَفِية: هي مباحة، أو مستحبة، أو تطوع، لم يطلقوا عليه اسم السُّنة.
والأفضل أن تكون في يوم السابع، وعيَّنها بعض أهل الفقه بذلك اليوم، ومنهم من مدها إلى السبع الثانية، والسبع الثالثة؛ إلا أنه لا يُحسب اليوم الذي ولد فيه المولود مِنَ السبع؛ إلا أن ولد قبل الفجر، فأما إذا ولد بعد الفجر فلا يحسب ذلك اليوم وتحسب سبع مِنَ اليوم الذي يليه فيصير في مثل اليوم الذي ولد فيه من الأسبوع الثاني يكون يوم سابعه، إلا إذا ولد قبل الفجر فيحسب اليوم، فيكون في اليوم مِنَ الأسبوع الذي قبل اليوم الذي ولد فيه بل هو اليوم السابع لأنه ولد قبل الفجر، فاليوم كله محسوب.
ذَكَر ما يتعلق بكراهة الاسم وقد ذكر ذلك بعض الشَّافعية وأحبوا أن يُسمى النسيكة والذبيحة، ولكن أطبق العلماء في المذاهب كلها على تسميتها باسم العقيقة، وجاء ذلك في بعض الروايات في أحاديث عنه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، ولأنَّ فيها اشتقاق من معنى العقوق وليس هو المراد بمثل ذلك.
-
وقد سمعت ما قيل عن اشتقاق العقيقة وأنها تكون من العَقِّ عند بعضهم، وهو القطعُ؛ لما يُقطَع من الشعر، ولِما يُقطَع أيضًا من أوداج البهيمة عند ذبحها.
-
وسمعتَ مَنْ قال أنها مأخوذةٌ مِنَ الشعر الذي على رأس المولود الذي يخرج به من بطن أمه، وقال ذلك جماعة من أهل اللغة، وما ارتضاه بعض أهل الفقه؛ فهي مأخوذة مِنْ ذلك.
ذكر لنا هذا الحديث الأول: أنه "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْعَقِيقَةِ، فَقَالَ: لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ". وفسَّر الراوي بقوله: "وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ الاِسْمَ"؛ أي: أن فِعلَ العقيقة للذبحِ عن المولود ثابتٌ، "مَن وُلِدَ له وَلَدٌ، فأَحَبَّ أن يَنسُكَ عن وَلَدِه فلْيَفعَلْ".
وبهذا أخذ الحَنَفِية أنها ما بين مباحة، وقد أطلقوا الاستحباب في هذا ولم يطلقوا لفظة السُّنة، وقالوا ليست بفرضٍ ولا سُنَّة. وقد قال ﷺ: "مع الغلام عقيقة"، و "كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه"، وعددٌ من الروايات التي جاءت فيها تسمية العقيقة بلسانه ﷺ.
وعلمنا حكم العقيقة عند الأئمة، وأنها عند جماهيرهم هي السُّنة المؤكدة، وقيل بوجوبها في قولٍ عند الحَنَابِلَة.
وذكر لنا بعد ذلك ما كان من عَقِّه ﷺ عن سيدنا الحسن والحسين، فيه أيضًا إشارة إلى أنه يمكن أن تحصل العقيقة من غير الأب مع وجوده وعدم امتناعه، والذي قاله الحَنَابِلَة قالوا: لا يصح أن يعق عن المولود إلا أبوه؛ إلا أن يكون غائبًا أو ميتًا أو امتنع عن العقيقة لولده فيعق عنه غيره. وفي الحديث أنه ﷺ عقَّ، فبعضهم حمله على أمره بالعقيقة، أي أمر سيدنا علي بالعقيقة، وبعضهم حمله على خصوصية له ﷺ، وفي الأمر سعة.
كذلك قالوا فيمن لم يعق عنه والده فكَبُر فيَعق عن نفسه إذا كَبُر. ويروى في ذلك عنه ﷺ الله أنه مع كونه عقَّ عنه جده عبد المطلب أنه عقَّ عن نفسه، عليه الصَّلاة والسَّلام، فيما يُروى في بعض الروايات.
وهكذا يروي لنا حديث وزنَ سيدتنا فاطمة -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- شعر الحسن والحسين لمّا حلقتهم في يوم السابع، ووزنته بالفضة وتصدقت به، وهذا أيضًا من السُّنة. وروى هذا الحديث سيدنا مَالِكْ عن شيخه سيدنا جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر أنه قال -يعني محمد الباقر- مُرسل عن السيدة فاطمة، وجاء في روايات أخرى عند الإمام مَالِكْ مُتصلة السند، وجاء عن سيدنا علي أيضًا قال: عقَّ رسول الله ﷺ عن الحسن شاةً. وقال: "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدَّقي بزِنة شعره فضة". فوزنّاه فكان وزنه درهمًا.
يقول أبو رافع: ولمَّا ولدت فاطمةُ حسنًا، قالت: يا رسول الله ألا أعقُ عن ابني بدرهم؟ قالَ: لا، ولكِنِ احْلِقي شَعرَهُ، فتصدَّقي بوزنِهِ مِنَ الوَرِقِ على الأَوْفاضِ؛ يقصد بهم أهل الصُّفة، زني شعر الحُسين وتصدقي بوزنه فضة. جاء أيضًا في الحديث من رواية سيدنا علي أن النَّبي أمر فاطمة أن تفعل ذلك، "احلِقِي رأسَهُ ثم تَصَدَّقِي بِوَزْنِهِ منَ الوَرِقِ في سبيلِ اللهِ"، فلمّا ولدت الحُسين قال مثل ذلك، وصنعت مثل ذلك عليها رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا جاء أيضًا في الرواية عن سيدنا عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال في ما رواه البزَّار: "أما حسنُ وحُسينُ ومحسِنُ" هؤلاء الثلاثة أولاده "إنَّما أسماهم" يعني: سمَّاهم رسول الله ﷺ، "وعقَّ عنهم وحلَقَ رُؤُوسَهُم وتَصَدَّقَ بِوَزنِها، وأَمَر بِهم فَسُرُّوا وَخُتِنُوا"؛ أيضًا قطع السُرة عند الولادة والخِتان في يوم السابع.
ويروى أن فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ وهي كانت أصغر بناته، وأحبهنَّ إليه، وأول الهجرة زوَّجها بسيدنا علي بن أبي طالب، وهي في روايةٍ في خمسة عشر سنة وخمس أشهر ونصف، وفي رواية أنها في الثامنة عشر، ثُمَّ توفيت لأنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين، فإذا كان قبل البعثة بخمس سنين فيضاف إلى الثلاثة عشر سنة فوق الخمس فتكون في الثامنة عشر، خمس فوق ثلاثة عشر كم؟ في الثامن عشر من عمرها، وهذا هو الأصح من جهة سنها، ولم تبقى بعده ﷺ إلا ستة أشهر فكانت أول أهل بيته لحوقًا به صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وقد أخبر ﷺ أنهما سيدا شباب أهل الجنة، الحسن والحسين، وقال "هما رَيْحانَتَيَّ من الدُّنيا".
وكذلك ذكر هنا زينب وأم كلثوم بنتيّ سيدنا علي، بنتيّ فاطمة الزهراء، قال: "وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، وَزَيْنَبَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ، فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةً"؛ فصار سُنِّية حلق رأس المولود سواءً أن كان ذكرًا أو أنثى، فهذه زينب وأم كلثوم بنتيّ سيدتنا فاطمة حلقوا رؤوسهما.
-
وهكذا يقول المَالِكْية والشَّافعية: لا فرق بين الذكر والأنثى، لأنَّ فاطمة بنت النَّبي ﷺ كانت بنظر وأمر أبيها، حلقت رأس الحسن والحُسين وزينب وأم كلثوم، وتصدّقت بزنة ذلك، وفي هذا الحلقِ مصلحة من حيث التصدق، ومن حيث حُسن الشعر أيضًا بعده.
-
والحَنَابِلَة يرون الحلق للذكور فقط، ولا تُحلق البنت.
-
كما أنَّ الحَنَفِية قالوا في مسألة الحلق كما قالوا في مسألة العقيقة أنها من المباح أو المُستحب؛ ولم يطلقوا عليه لفظ السُّنة.
قال: "فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةً"، وفي الرواية الأخرى: "وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَتِهِ فِضَّةً". ولم يزل عملُ الكثير على ذلك، وهكذا حُكم خصَّه الحَنَابِلَة بالذكور، وقال الشَّافعية والمَالِكْية لا فرق بين الذكور والإناث، كذلك قال الحَنَفِية أنه مباح أو مستحب لكل من الذكور والإناث في سابع الولادة؛ وإلا ففي السبع الثانية؛ وإلا ففي السبع الثالثة وهكذا، فإذا كَبُرا فات والداه سُنَّة العقيقة عنه وبقيت معلقة بذمته بعد بلوغه إن شاء عقَّ عن نفسه، وبالله التوفيق.
رزقنا الله الاستقامة، وبارك في ذرياتنا وذوينا وأهلينا وفي المسلمين بركة يقينا بها شر أهل الكفر والزيغ والضلال، وكل موجبات الحسرة والندامة، في الدنيا ويوم القيامة، وأصلح شؤون الأمة أجمع، ورفعنا مراتب قُربه فيمن يرفع، وأعاذنا من كل سوءٍ أحاط به علمه، و وقانا كل شرٍ في لطف وعافية بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
21 صفَر 1443