تفسير سورة طه - 3 - من قوله تعالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} إلى الآية 38
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38))
مساء الإثنين 6 رجب الأصب 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمدلله مُكرِمنا بالتنزيل، وبيانهِ على لسان عبده ورسوله خير هادٍ ودليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارِك وكرِّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى أتباعه بالصدق في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين أهل المقام الجليل، أهل التكريم والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإنّ في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا، وتدبرنا في آيات إلٓهنا، ونظرنا في معاني تعليمات الخالق لنا -جلَّ جلاله- وما أنزلهُ على قلب حبيبه المصطفى، انتهينا في سورة طه إلى خطاب الحق -جلَّ جلاله- لسيدنا موسى بن عمران على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام في كل آن، وآلهم وصحبهم وتابعيهم على مدى الزمان.
وعَلِمنا ما أكرم الله به سيدنا الكليم، مِن المُخاطبة والتكليم، وما بادأهُ به وكاشفهُ؛ (إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا)، عن الإيمان بها والتصديق والاستعداد والتهيؤ لها (مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا) مِن أنواع الكفر والملحدين على ظهر الأرض، (فلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، فهم أتباع الأهواء في السرِّ وفي النجوى (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) -وإن يتَّبعون إلاَّ أهواءهم- (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم:28]، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ) [الجاثية:23]، فالذين لا يؤمنون بالآخرة:
-
لا يجوز لنا أن نفسح لهم مجالًا ليصدُّونا عن الإيمان وقوَّته،
-
وحُسن الاستعداد وأن لا نتعامل في حياتنا إلاَّ بما ينفعنا في ذلك المصير وفي الدار الآخرة،
وكلُّ مَن التفت إليهم، وكل مَن قبِل منهم، وكل مَن توجه إليهم مُعرضًا عن أمر ربه يرْدى، أي يهْلك (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16)).
وفي كريم المُكالمة الربانية لسيدنا موسى يقول الرحمن سبحانه وتعالى لعبده الكليم:
-
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)) ما هذا الذي تحمله بيمينك؟ وكان فيه مؤانسة وتقرير، وتهيئة له لرؤية الآيات والغرائب والعجائب.
-
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ) ما الذي بيمينك؟ أتعرفه أو لا؟ هل هو شيء مألوفٌ عندك ومعروف لديك؟
(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) -عند المشي في الطريق وعند إرادة القفز- (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي ..(18)):
-
(أَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي) يعني أضع محْجنها في الغصن، فأحرِّك الغصن ليسقط الشجر اليابس الذي تأكله الأغنام
-
(أَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي) الهش أن يضع المِحجن في الغصن ويحرِّكه فيتساقط
-
(وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي)، لترعى وتنال نصيبها مِن هذا المرعى،
وجاء في قراءة أنه (وَأَهُسُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي)، وأهسُّ بمعنى الهش وقيل: أن المُراد بالهس ردْع الأغنام نفسها بهذه العصا وتسييرها في الطريق.
(وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي) أُحرِّك أغصان الأشجار ليسقط منها الورق الذي تأكله الأغنام فترعى، (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)) حاجات أُخر:
-
منافع ومصالح في هذه العصا،
-
كما أعرف بها عُمق ماءٍ أريد أن أعرفه،
-
أضرب بها مَن يناولني أو يعاديني أو يتعرض إليَّ مِن كلب أو سبع،
-
إلى غير ذلك مِن المنافع.
قالوا: وإنما استرسل سيدنا موسى في خطاب الرَّب -جلَّ جلاله- مع أنه يكفي قوله: (هِيَ عَصَايَ)، لكن استرسل فقال: (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ)؛ لِما قابله مِن الأنس مِن حضرة الرحمن، قال له: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ) فذاق حلاوة المناجاة ولذّتها، فأخذ يزيد في الكلام استلذاذًا بخطاب الرحمن -جلَّ جلاله- وحِرْصًا أن لا ينقطع عن مناجاة هذه الحضرة فيما يحس به مِن لذة، وهو يخاطب رب العالمين -جلَّ جلاله-.
فقال: (هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18))، قال له الرَّب تعالى: (أَلْقِهَا) فارْمِها، قال: (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)) اطْرحها عنك، انبذها، فنبذها، رماها أمتثالًا لأمر ربه. (أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ)؛ وفي هذا أنواعٌ مِن التربية والإعداد وفيها أن هذا الذي تدَّعي فيه لك مآرب ونفع؛ ارْمِه، أنا الذي أنفع، وهذه أسباب ما تعدو ذلك، فكن معي، اجعل قلبك معلَّق بي.
(أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)) ألقاها وأحدث الله له معجزة، تحوَّلت لمَّا ألقاها، (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)) -حَيَّةٌ- ثعبان كبير، (تَسْعَىٰ) تجري وتهتز كأنها جان، جان صغير، أسرع أنواع الحيات في الحركة والجري الجان الصغير؛ ولكن هذا ثعبان كبير إلاَّ أنّ حركته واهتزازه مثل الجان الصغير. (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ) لها جري وهي كبيرة (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ) -الله أكبر- فقلبَها له سبحانه وتعالى وعمل مِن الأشياء التي يُعجِز عنها خلقه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-؛
-
ليزداد ويقوي إيمان سيدنا الكليم موسى ويقينه،
-
ولئلَّا يهتزّ منها بعد ذلك إذا ألقاها في حضرة فرعون وكما يأمره الحق -تبارك وتعالى-،
-
ولإقامة حجته في أنه جاء مِن عند الله.
(قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)) فزع سيدنا موسى، ما هذا الخبر؟! وكيف تحولتْ؟! وأدبر، يبعد مِن حية تأكل، وهي كبيرة مع حركة قوية مثل الصغيرة، قال له تعالى: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص:31]؛ رجع، وإلّا في البداية أدبر ولم يعقِّب، ذهب إلى مكان بعيد حتى لا تدركه الحية، فتذكّر ورجع، وقال المحل الذي كنت فيه ارجع إليه، فرجع سيدنا موسى -عليه السلام- وعاد إلى المكان الذي كان فيه، وهذه لا زالت حية، وهي حية أمامه، بل يُقال: أن الله أراه ما يُحدثه بِقُدرته مِن قوة، فمرَّت أمامه أمام شجرة فقلعتها بأنيابها وابتلعتها -الله-! فرأى فيها عجائب القوة.
(قَالَ خُذْهَا) حية تسعى! (قَالَ خُذْهَا) لابد له مِن امتثال أمر الله قال له: (وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا) -نرجعها- (سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)) أي إلى هيئتها الأولى، إلى هيئتها وحالتها الأولى كما كانت معك، العصا نفس العصاة؛ (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا) أي إلى سيرتها الأولى، بالضبط كما كانت، فوضع يده على فمها وهي حية؛ لكن بأمر الله -تبارك وتعالى- حتى يُقال أنه كانت عليه مدْرعة، فقرَّب المدْرعة مِن يده، وقال له ملك مِن الملائكة: يا موسى أرأيت إن أراد الله لك ما تحاذر، أتغني عنك المدرعة؟ قال: لا والله ما تغني عني شيء؛ ولكن ابن آدم ضعيف، رفعها وكشف يده ووضعها على فم الحية، فبِمُجرد ما وضعها على فمها رجعت بالضبط، وإذا بيده في نفس المكان الذي كان يمسك بها العصا، هي نفسها، وأصابعه في المحل الذي وضعه فيها بين جنبيه، نفس المكان ونفس الهيئة: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ) وعادت كما كانت عصا -سبحان الله- القوي القادر يخلق ما يشاء يفعل ما يريد.
هذه صفة الألوهية والربوبية؛ قدرة طليقة، ويغترّ الناس في الحياة يجدون تراتيب الأسباب والمسببات يظن أنها فعَّالة، هي ليست فعّالة بل هو -الله ﷻ- الذي رتبها هكذا، ومتى أراد أن يخرقها يخرقها، متى ما شاء -جلَّ جلاله- وهي نفسها، حتى المرتّبة هذه آيات، آيات مِن الآيات العجيبة:
-
أنت كنت نطفة، الآن تسمع وتبصر وتتكلم كيف؟! ترى الناس هكذا عادي، كيف عادي؟!
-
آيات، كيف تستنشق الهواء! و بالقصبة المُرتبة لك، وتدخل من مكان معين ويتكيُّف قبل أن يصل إلى الرئة، إن كان شديد البرودة تخف برودته ويدفأ، وإن كان شديد الحرارة تخف حرارته ويبرد، لكي يصل متوسط إلى الرئة، وواحد بعد الثاني وبلا تعب كل يوم،
ما هذا؟! كلها آيات؛ ما نألفه وما لا نألفه، الأسباب كلها سواء، كلها في قدرة الله سواء: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، -جلَّ جلاله-
قال له الحق؛ وهناك آية أخرى سأُريك إياها، معجزة أخرى، قال: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ)، وكان عنده جيب في قميصه، محل مفتوح -جناحك هو جنبك، تحت عضدك- ضُم يدك إلى جناحك، فأدخلَ يده اليمنى، ثم قال له: أخرجها. أخرج يده فإذا هي بيضاء منيرة تضيء، تحوّلت إلى سراج قوي، ثم قال له: رُدَّها مرة ثانية، فردّها فرجعت كما هي. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ (22)) لا برص، ولا عِلة، ولا مرض، ولا شيء يعيب أبدًا، ولا شين أبدًا، صحة كاملة، وضَوء قوي ساطع كأنه قمر أو كأنه شمس تضيء، قال له رُدّها فرجعت كما كانت، يده المعتادة -الله أكبر-.
(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ليس فيها عِلة بياض ولا برص ولا مرض؛ ولكن نور ساطع يُضيء، بياض لامع ناصع، قال: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23))، فكانت هذه مُتعلقة بجسدك -في يدك- تدخل وترجع بالنسبة لك كبيرة، مِن آياتنا الكبرى ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى).
(اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ) هذا الذي هربتَ منه، وخرجتَ خوفا من بطشه، وذهبتَ إلى أرض مدْين، فارجع مرة ثانية إلى عنده وادع إليه، وقل له أن يُنقذ نفسه من الحالة التي هو فيها؛ (إِنَّهُ طَغَىٰ (24)) تمادى في الغي والطُّغيان والبطش والانتقام، وقد مرّتْ عليه أربعمئة سنة، لم يبتلِهِ الله فيها بمرض، لم يمرض! وسخَّر له أسباب كثيرة حتى اجترأ وافترى، (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] ثم رجع يقول له؛ أصلا لا يوجد إله إلا أنا، لا أحد أصلا إله، ما شيء أعلى، فقط أنا وحدي، قال لهم: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38] جراءة على الله، وفساد عظيم في الأرض.
(إِنَّهُ طَغَىٰ (24)) لغاية الطغيان، اذهب إليه! وإذا بها رسالة، يحمله الله إياها، وإلى أقوى طاغية وأشد طاغية ومُتجبِّر على ظهر الأرض في تلك الأيام، لا أحد في الشرق ولا في الغرب مثله، في قوة الجيش والقدرة واستخفاف قومه الذين أطاعوه؛ وتكبّره وطغيانه، لا أحد أقوى منه في تلك الأيام على ظهر الأرض، أكبر دولة وأعظم طاغية؛ اذهب يا موسى إليه، وما مع موسى إلا أن ارتمى على هذا الإله وقال أنا سأمتثل أمرك وأقوم بالأمر لك، فأمدَّني من عندك:
-
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25))؛ لأنَّ المهام الكبيرة العظيمة ما تؤدى وتقام على وجهها إلا بشرح الصدر من الله.
-
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) فبانشراح الصدر تقوى على أن تنظر في الأمر؛ تُحْسن النظر، وتحْسن التعامل، وتصل إلى الغاية والنهاية بلا انفعالات ولا غلَبات تغلبك، يمنة ولا يسرة، بانشراح الصدر.
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)):
-
وعرض الله لنا دعاء سيدنا الكليم عليه السلام، أن يشرح الله صدره للقيام بالأمر، قالوا وخاطبَ نبينا من دون ما يعرض دعاءهُ، بل عرض لنا عطاءه قال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح:1] موسى (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي) وحبيبنا قال له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) -الله أكبر- وهكذا مقام الحبيب الأعظم ﷺ عند ربه.
-
قالوا: وعرض علينا ايضاً في القرآن دعاء سيدنا الخليل إبراهيم اهتماماً باليوم العظيم، يوم القيامة: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء:87]، ما عرضَ لنا دعاء الحبيب في هذا، قال له: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) يوم لا! يوم لا نُخزيك، ولا نُخزي من معك! (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) [التحريم:8] -الله أكبر-.
قال سبحانه وتعالى، يقول موسى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) نسأل الله أن يشرح صدورنا، ويُيَسِّر أمورنا حتى نقوم بالأمر كما يُحِب على ما يُحِب، ولا ينتابنا غفلة ولا تقاعس ولا تصديق كاذب ولا فاسق ولا قاطع عن الله تبارك وتعالى، ونؤدّي الأمر في هذه الحياة القصيرة على ما هو أحب وأرضى للرب -جل جلاله-.
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)):
-
مُهِمّاتي العظيمة في القيام بهذه الدعوة،
-
ومخاطبة هذه الدولة الطاغية الكبيرة ودعوة الناس إليك،
-
وكلّهُ محتاج إلى تيسير منك وإلى شرح للصدر.
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27)) عقدة من لساني، في لساني بقية عُقد، حُلَّ (عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)) حتى يفهموني، عندما أتكلم؟! وذلك يُقال في شأن هذه العقدة في لسان سيدنا موسى -عليه السلام-، أنه من الاختبارات التي وقعت له والفِتن، أنه لما أكملت رضاعه أمه ورجع إلى قصر فرعون، جاء ينتف لحية فرعون، وكان معه عصى فلطم بها فرعون، ففزع فرعون، فقال له بعض الذين عنده: رأيت هذا؟ الظاهر أنه من بني إسرائيل! الذين يتكلمون عنه بني إسرائيل، قال: هاتوه اقتلوه! أتى بالذباحين ليذبحوه، جاءت آسية قالت: مالك؟! ما بدالك في الغلام؟ وهبتهُ لي! قال: إنه فعل كذا وكذا، قالت: هذا لعدم عقله، جرِّبه! أعرض عليه لؤلؤ وجمر، انظر ماذا يفعل؟ إن كان تجنّب الجمر وأخذ اللؤلؤ، فهذا يعقِل، وإن كان أخذ الجمر فهذا من عدم عقله، فلا يؤاخذ، جاء به، فوضع يده في الجمرة، حمل الجمرة إلى طرف لسانه فأثّر الحرق في اللسان جعل كدمة في لسانه وفي الكلام؛ بعض الحروف تكون غامضة، عندما ينطق بها، قال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)) قال: اتركوه! وفتنَّاك فُتونا كما يأتي، مرَّ بمراحل فيها اختبار قوي.
قال: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا) واحد مُناصر وعضُد، يتحمل معي هذه المهمة، يكفيني بعض هذه المؤونة ويناصرني، وزير (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هارون)، (هَارُونَ أَخِي (30)) -هارون- (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قوِّ به شأني (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)) في النبوة والرسالة -الله أكبر-.
وسمِعت مرة السيدة عائشة أنه كان أعرابي يتكلّم مع جماعة من الصحابة، يقول لهم: أتدرون أي أخ كان أنفع لأخيه على مدى الحياة؟ من كان؟ قالوا: ما ندري مَن مِن أخ؟ قال: أنا والله أدري! السيدة عائشة تتنصَّت، ما هذا؟! يحلف بالله بيمين أنه يدري؟ قال لهم: هارون! ماذا فعل موسى؟ قال جلبَ لأخيه النبوة، هل يوجد أكبر منها!؟ قالت عائشة: صدق! لا أحد في العالم تسبّب في نفع أخ له وتحصيل أمر عظيم مثل موسى، موسى تسبب لأخيه في النبوة، وحوّله الله إلى نبيّ، وأوحى إليه، ونبَّأه بطلب موسى، فما أحد جلب لأخيه أبدا من جميع الإخوان منذ خُلِق آدم إلى أن تقوم الساعة، لا يقدر أحد أن يجلب لأخيه مثل ما جلب موسى لأخيه النبوة والرسالة، فصار سيدنا هارون من الأنبياء والمرسلين بسبب أخيه سيدنا موسى: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)).
يقول: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)) وفي هذا أنَّ الأنبياء والمرسلين يفقهون أنَّ مِن مُهمات المؤمنين بالله على ظهر الأرض وخصوصاً الدعاة إليه أن يُكثِروا التسبيح والذكر للرحمن، (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا)، فإنَّ كثرة التسبيح والتقديس والتنزيه لله؛ صِلة بالقوي الأعلى، مِن شأنها أن يُنزِّه الله شأن هذا العبد، وأن يحميه وأن يحرسه (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] إذن فالذكر ركن من أركان السير إلى الله، والوصول إلى الله، والتبليغ لشرع الله -تبارك وتعالى-، لذا المُعلم والمُذكِّر والداعي إذا نصيبه من الذكر أكبر؛ أثره أكبر، وكلامه أنوَر بسبب كثرة ذكره.
سيدنا موسى يقول: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)) لهذا لا يمكن أن يأتي شخص يدَّعي جهاد ويدّعي فكر وثقافة ويدّعي قيام بالدعوة يقول لا داعي لأذكار كثيرة، لا داعي لعبادات وهذه ما الفائدة منها؟! (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا) ما معناها؟! لمَّا حملَ المهمة الكبيرة من أجل تبليغ الرسالة للطَّاغية الكبير في الأرض قال نحن نسبحك كثيرا حتى نقوى على مقابلة هذا الطاغي وإرشاده إليك (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34))؛ وبهذا المعنى جاءنا الحديث الصحيح، لما سُئل نبينا:
-
"أي المصلين أكثر أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا، أي المُصلين أعظم أجرا -الذين يصلّون أيهم أعظم أجرا؟- قال: أكثرهم لله ذكرا،
-
قال: يا رسول الله فأي المُتصدّقين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكرا،
-
قال يا رسول الله: فأي الصائمين -الذين يصومون أيهم- أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا،
-
قال: فأي المُجاهدين -المُقاتلين في سبيل الله، الذين يجاهدون-، أيّهم أعظم أجرا، قال: أكثرهم لله ذكرا"؛
ولذا نُحِب ما يبدو من إخواننا المجاهدين أن يقولوا -بفضل الله وبحمد الله وتوفيق الله- وهو قليل في كلامهم، يحتاج أكثر، اعتمادهم على الله وذكرهم لله يجب أن يكْثُر وأن يكْبُر، وإلا قد أوْحت إلينا قوات الشر في الشرق والغرب أنِ استحيوا من ذكر الله ولا تكثروا منه، وعندما تخاطبوننا أبعدوا ذكر الله:
-
فيجب أن نكثِر ذكر الله،
-
ويجب على المجاهدين أن يكثروا ذكر الله،
-
يُصحّحوا مقاصدهم أن لا يكون لهم قصد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.
-
يُكثروا ذكر الله في جهادهم.
أي المجاهدين أعظم أجرا؟ قال أكثرهم لله ذكراً! ولمّا توالت الإجابة على هذه الأسئلة من النبي ﷺ التفت سيدنا أبو بكر لسيدنا عمر بجانبهِ يقول له: ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة، -سمِعهُ ﷺ- والتفت قال: أجل -أي نعم-، ذهب الذاكرون لله، بخيري الدنيا والآخرة، اللهم أعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)) فنُحِب من كل الذين يقومون بالجهاد في سبيل الله -بأي أنواع الجهاد- أن يتمكّن ذكر الله من قلوبهم وأن ينسبوا الأمر إلى الله، هو الناصر وهو المعين وهو المؤيِّد: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي) [آل عمران:160]؛ لا خطتكم ولا أسلحتكم ولا غيركم، لا ينصركم إلا هو، فيجب أن تقوى الثقة بالله والاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- وأن يكثر ذكر الله تعالى في أحوالنا.
(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)) أعلَم بِشؤوننا وأحوالِنا، وإذا رأيت مِنّا التعلُّق بِك وبذكْرِك وتعظيمك أمددْتنا، بحُكم فضلك وسُنّتك بما أنت أهله: (إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)) كل الذي تسأل حقَّقنا لك -احفظ-،
-
نشرح لك صدرك،
-
نُيسُّر لك أمرك،
-
نحْلل عقدة مِن لِسانك حتى يفقهوا قولك،
-
ونجعل لك وزير مِن أهلك،
ونوحي ونُنبئ هارون كما نبأناك، ويكون لك وزير ومُعين في القيام بالمُهِمّة، وتنطلقون في ذكري وفي تسبيحي: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34))؛ لهذا لما جاء بعض قادة المسلمين في بعض جهادهم في سبيل الله -تبارك وتعالى- مرّ على الجيش في الليل يتفقّد حالهم، وجد واحد ساجد رافع أصبعه نحو السماء يدعو الله، فوقف، رمَقهُ بعينه، وقال: والله إن هذه الإصبع المرفوعة، وهذا الوجه الساجد في هذه الساعة أحبّ إليّ من ألف مُقاتل معي وألف فارس يقاتلون معي في المعركة، -هذا الاصبع والدعاء هذا هو الذي سيجيء بالخبر، أحسن من ألف فارس يأتون معي في المعركة- ونصَرهم الله تعالى في تلك المعركة، (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)).
يقول: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37)) يذكّره بنِعم سبقت؛ قال: من البداية كنت أرعاك و أعتني بك وأُدبّر أمورك.
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38)) اسمها: "يوحاند" أم سيدنا موسى وأم سيدنا هارون (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ) فجاء هذا الوحي؛ إذاً فعندنا من الوحي ما لا يتعلق بالنبوة ولا بالرسالة، وهي إعلام من الله ووحي لمن شاء -سبحانه- بتنبيهات وتعليمات، وهذا الوحي مُنتشر:
-
حتى نصَّ عليه القرآن، حتى في الحيوانات: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل:68].
-
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ) لا يوجد نبي امرأة! هي امرأة صالحة، أوحى الله إليها وأعطاها أخبار -جل جلاله- فيوحي الله تعالى إلى من يشاء، غير النبوة وغير الرسالة.
أما الوحي بالنُبوّة وبالرِسالة، هذا الذي انقطع بِنُبوّة نبيّنا محمد ﷺ، فهو خاتم النبيين؛ فلا نبوّة ولا رِسالة، حتى سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام- ثبتت نبوّته مِن قبل، و لمّا يخرج إلى الدنيا ويحُكم بشريعة النبي محمد، ينزِل عليه وحي، لكن ليس وحي نبوّة ولا رسالة، هي نفس رسالة النبي محمد، يأمره فيها بأمر الله؛ افعل كذا وافعل كذا وقل كذا، أخبِر هؤلاء بمكانهم في الجنة، أخبِر هؤلاء بما لهم عندي،
فكان من ذلك ما جاء فيه أنه يُخبر الصابرين أيام الدجال، خصوصاً الذين ذهبوا إلى الجبال وصبروا، حتى منهم من يكتفي بلبن الظباء ومنهم من يكتفي بالتسبيح والذكر عن الغذاء، حتى ينزل سيدنا عيسى، إذا جاءوا قال له: فيُخبِرهم بقُصورهم في الجنة، يُبشّرهم بها سيّدنا عيسى، هذا وحي، لا يوجد نبوّة ثانية بعد النبي لا نبوّة ولا رسالة، ونبوّة سيدنا عيسى ثابتة من قبْله ﷺ، قبل ختم النبوة -نبوة نبينا محمد-.
أما هذا الوحي فشأنُه كبير، وهو الإعلام في خفاء، حتى إلى الحيوانات، وهذا وحي كبير لسيدتنا أم موسى، فيه كلام عن الواقع وعن الغيب وعن المُستقبل، أخبرها الله تعالى عنه، أوحى إليها: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38)) يقول: انظر إلى عنايتي بك، حتى أمّك نالت مِنّا مكانة ومنزلة لِمحبتنا لك؛ فنالت أمّه مكانة، وأوحى الله تعالى إليها مِثل هذا الوحي الذي سيأتي معنا بيان بعض معْناه، وهذا هو وحي الله -سبحانه وتعالى- غير النبوّة والرسالة، لأصفيائهِ وأوليائهِ والصالِحين من عباده، مثل: أم سيدنا موسى، حتى أنها نفذّت أمر غريب -وهو أن تضعه وسط التابوت وترميه في البحر- لا أحد يعمل هكذا، لكن وحي من الله، وضَمِن لها أنه سيرجعه إليها -سبحانه وتعالى، وأخبرها أنه سيصير نبي ورسول كما يأتي معنا في الآيات.
فهذا عجائب مما قال عنه ﷺ: "إن في الأمم قبْلكم مُحدَّثون"، يعني يُنْبئهم الله تعالى بأشياء ستكون وستقع، قبل أن تكون، "إن في الأمم قبلكم محدَّثون"، أو "كان في الأمم قبلكم مُحدّثون، فإن يكن في أمّتي فعُمر مِنهُم"، -يعني عمر بن الخطاب؛ واحد من المحدّثين-، حتى كان يقول ولده سيدنا عبد الله بن عمر؛ ما سمعت أبي يقول في شيء: أظن يكون كذا، إلا وقع كما كان.. كما ظن.. كما يقول: أظن هذا يكون كذا؛ يكون كما ظن، فهو مُحدَّث -عليه رحمة الله تعالى ورضوانه- وفي هذه الأمة مُحدَّثين كما كان في الأمم السابقة، "كان من قبلكم في الأمُم مُحدَّثين، فإن يكن في أمّتي فعُمر منهم" عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
فالله يملأ قلوبنا بالإيمان واليقين، ويجعلنا في الهُداة المهتدين، يُبارك لنا فيما أعطانا وما أنعم به علينا، يربطنا بالقرآن ربطاً لا ينحل، يرفعنا به إلى أعلى محل، يفرِّج رب أمة النبي محمد، يرُد كيد المعتدين الظالمين الغاصبين من يهود ومن ولاهم ومن أعانهم من جميع المُفسدين المُجرمين، يهزمهم ويزلزلهم، ويجعل كيدهم في تضليل، ويجعلهم كعصف مأكول، يأخذهم أخذ عزيز مُقتدر، يكفي المسلمين جميع شُرورهم، ويُحيي قُلوب المُسلمين بالإيمان وباليقين، والرجعة إلى الرحمن، وكثرة الذكر له، والنصرة له ولرسوله ﷺ، ويخلّصهم من هذه الأطماع والتبّعية لخباث خلق الله ممن لا يؤمن بالآخرة.
اللهم خلِّص المسلمين من هذه البلايا والرزايا، واملأ قلوبهم بالإيمان واليقين والتقوى، واجمع شملهم وألِّف ذات بينهم، وبارك لنا ولهم في رجب وفي شعبان وبلغنا رمضان وأعِنا على الصيام والقيام، اللهم اجعلها أشهر فرج من عندك، وغياث من عندك، ورحمة من عندك، ودفع للآفات والبلايا، وصلاح للظواهر والخفايا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
الفاتحة
12 رَجب 1446