تفسير سورة الشورى -05- من قوله تعالى: { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ... الآية 14 إلى الآية 16
الدرس الخامس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) }
السبت 15 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بتنزيل الآيات وبيانها على لسان خير البريات، وجعلِها حبالاً ممدودةً توصل إلى ذُرَى الدرجات والمراتب العاليات، في المعارف والفهوم والقرب من الحي القيوم، فلله الحمد والمنة، ونسأله أن يُصلي ويُسَلِّمَ على بابه المصطفى المختار سيدنا محمد سيدِّ أهل الفطنة وإمام أهل الجنة وقائد أهل النفوس المطمئنة، أدم اللهم صلواتك على عبدك المجتبى سيدنا محمد وعلى آله المطهرين وأصحابه الغُرِّ الميامين الأنصار والمهاجرين، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل التمكين في المعرفة واليقين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد؛
فإننا في نعمة ومِنَّةِ وفضل تأملنا لكلام إلهنا وخالقنا، مررنا على بعض معاني الآيات من سورة الشورى حتى وصلنا إلى قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..(14))، يقول: إنَّ الأمم من قبلنا في مختلف طوائفهم؛ ما تفرقوا واختلفوا على أنبيائهم وتباعدوا بينهم البين وعادى بعضهم بعضا (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا)، من بعد ما توضَّحت الآيات والبينات، وحُذِّرًوا من الفُرقة وحُذِّروا من التخالف، ومع ذلك قادتهم نفوسهم وأهواؤهم أن يتخالفوا،
-
وكل مَن لم يتمكن مِن زمِّ زمام نفسه بنور الله فقائده الهوى.
-
وإنما تزدَمُّ النفس بنور الله إذا زُكيت على أيدي أهل التربية من الأنبياء وورثتهم ومن يخلفهم في تزكية النفوس.
ولذا قالوا: من لم يكن له شيخ -يعني من أهل المعرفة بالله وأهل الوراثة للنبوة- فشيخه الشيطان، حاضر إبليس، حاضر يقوده؛
-
إنما يفلت عليه إلا من سلم زمامه لأيدي أهل التزكية والتربية.
-
وأما من لم يسلم زمامه لأحد من أهله فهو حاضر عنده يلعب على آرائه وعقله من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر؛ فشيخه إبليس.
وبهذا حذرنا الحق من فعل هؤلاء (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..(14))، وكذلك الطوائف فينا معشر الأمة الذين جاءوا بالشقاق وجاءوا بالاختلاف المقيت، وقد فرقنا بينهم وبين اتساع أوجه الدلالة في النصوص ووجود المستنبطين لها؛ وأن هذا ليس من الاختلاف المذموم ولا من التفرق في الدين، وأن هذا عثور على عظمة الدين وساعته وتعدد معاني نصوصه والأخذ بشيء منها كُلٌّ بما يرجحه اجتهاده من الذين هم أهل لذلك لا إشكال في ذلك ولا تفرق ولا اختلاف.
ولذا وجدناهم من عهد الصحابة فمن بعدهم -مع وجود الأوجه في الفتاوى وفي فهم النصوص- ليس فيهم من يتحامل على الآخر ولا من يسب الآخر ولا من يؤذي الآخر، فما هناك اختلاف مقيت ولا تفرق، والذين أدركتهم صلاة العصر في الطريق وهم في مشيهم إلى بني قريظة اختلفوا اختلاف حقٍّ وهدى وسعة في العلم.
في نص جاء عنه بلغوه أن رسول الله قال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" وكل من سمع النداء خرج، فالذين خرجوا متأخرين وأدركهم الوقت والشمس تغرب عليهم فهم في الطريق؛ فجاء اجتهادهم في النص:
-
فقال جماعة منهم: لم يقصد النبي ﷺ أن نؤخر الصلاة عن وقتها وإنما أراد أن نستعجل بالخروج من بلداننا، وأول ما سمعنا النداء خرجنا، لكن أدركنا الوقت الآن و (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103]؛ فنصلي في الطريق ونلحقه.
-
وقال الآخرون: قال ﷺ لا تصلوا إلا في بني قريظة سواءً دخل الوقت أم خرج، ما لنا دخل.
-والكل في اتباعه-، فوصلوا إلى عند الحبيب ﷺ فلم يُعنِّف أحدا منهم، ولا أحد منهم تكلم على الآخر ولا استهزأ بالآخر ولا سب الآخر؛ فهذا المعنى الصحيح لوجود الوجوه في معاني النصوص وقيام المذاهب الصحيحة عليها لا تفرق ولا اختلاف.
ووجدنا أئمة هذه المذاهب من بعد الصحابة من التابعين وتابعي التابعين إلى الكبار الذين اشتهرت مذاهبهم في الأمة كساداتنا أبو حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، وجدناهم معظمين لبعضهم البعض ومحبين لبعضهم البعض وممجدين لبعضهم البعض، ما هناك تفرق ولا اختلاف.
جاءت جماعة يلوون النصوص عن موضعها ويحرفونها ويكفرون الصحابة ويقاتلونهم، هذا الاختلاف وهذه الفرقة في الدي وهذا الاختلاف المقيت المريض، وهكذا في كل من يخالف في أصول الدين أو يجعل من الخلاف في شيء من الفرعيات عداءً وكراهيةً وبغضاً واستحلالاً للدم والعياذ بالله- أو للمال أو ما إلى ذلك، هذه الفرقة المقيتة التي حذرنا الله منها وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) -يعني أنت بريء منهم والله بريء منهم والرسول بريء منهم- (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159]، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:105].
يقول: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..(13))، أوحى إلى جميع الأنبياء كذلك ثم قال عن أقوامهم الذين تفرقوا: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، يقول الله وكل ذلك لحِكَمٍ وُجِدت على ظهر الأرض وعلى هذه الحياة، فلا تظنن أن شيئا عبثا، ولكن حِكَمًا في إضلال من يشاء وهداية من يشاء، مع تكرُّمه بدلالة الجميع وإعطائه الجميع العقول والأبصار والأسماع والمدارك والأذواق، ومع ذلك فبحسب غلبة الشهوات يحيدون عن سواء السبيل وباتباع الأهواء قال: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ..(14))، ولكن كم قابل من الكفار أنبياء الله بالسوء وبالأذى واستمروا مدة.
وسيدنا نوح يؤذيه قومه ويستهزئون به وقد يضربونه حتى يغمى عليه، مدة سنة؟ زد، سنتين؟ زد، عشر سنين؟ زد، عشرين سنة؟ زد، مائة سنة؟ زد، المدة هذه كلها؟! (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14]، تسعمائة وخمسين سنة، وما أهلكهم الله إلا بعد ذلك، لماذا؟ كلمة سبقت أجلهم آجال هلاك الأمم، بل هلاك كل فرد مؤجَّل بوقت (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
وأنت بعقلك يا ابن آدم تريد الأمور بسرعة تمشي على ما تريد؟ ستبطل المملكة كلها! (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) [الإسراء:11]، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون:71]، ولكن كل شيء له وقت، ولما قال سيدنا موسى -عليه السلام-: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) [يونس:88-89]، ماذا بعد ذلك؟ هل في الليل هلك؟ لا، ثاني يوم هلك؟ لا، ثالث يوم هلك؟ لا، رابع يوم هلك؟ لا، أسبوع هلك؟ لا، أسبوعين هلك؟ لا، شهر؟ لا، شهرين؟ لا، سنة؟ لا، سنتين؟ لا، أجل موجود مسمى، حتى قال كثير من المفسرين بعد أربعين سنة هلك فرعون والدعوة قد أُجِيبَت (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) -الطريق هذا الذي رسمناه لكم امشوه- (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، وهكذا إلى أن جاء الوقت (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ)، (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) [يونس:90-91].
يقول: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): حُكم وإرادة.
(إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): للساعة وقيامها، ولهلاك كل قوم، ولهلاك كل فرد؛ أجل مسمى، ما يتقدم ولا يتأخر (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) خلاص بمجرد ما يسيء الأدب مع النبي سيهلك محله، الله يقدر على ذلك لكن ليس هذا من حكمته، وهو الإله العليم الحكيم -جلَّ جلاله- يمهل ولا يهمل.
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ..(14))، (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) [الأنعام:58]، ما عندي ما تستعجلون به، أنا عبد مرسل من عند الله ورتب الأشياء وآجالها وأقدارها والمؤاخذة عليها في أوقاتها، كيف يأتي مخلوق يلعب على مملكة الرب وتقديره؟ ألا يعلم! هو العالم -سبحانه وتعالى- لا إله إلا هو.
قال: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الأنبياء والمرسلين، كل من جاء من أممهم يرثون الكتاب حتى جاء الكتاب الخاتم القرآن (لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ(14)) خالفوا وتجرؤوا على المحارم حتى بدلوا كلام الله، فصاروا في شك ومرية، وإنَّ المعاصي بريد الكفر، أي رسولها المؤذِن بوصوله ومجيئه، معصية معصية معصية معناها بعد ذلك يصبح كفر، التمادي في المعاصي يوصل إلى الكفر، وهؤلاء تساهلوا إلى أن وصل بهم الحد أن يُبدِّلوا كلام الله وصاروا بعد ذلك في شك (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) [الروم:10].
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)) ذهب الإيمان وذهب اليقين، بقوا في شك؛ فوجب قيام الدعوة للمحافظة على ما يأذَنُ الله بحفظه من قلوب وعقول الناس؛ حتى لا تزيغ، حتى لا تنحرف، حتى لا تُخْدَع، حتى لا تطغى عليها الأهواء والشهوات.
(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ) أقم الدعوة، الدعوة إلى ماذا؟ الدعوة إلى الله، كيف الدعوة إلى الله؟ الدعوة إلى طاعته وإلى الإيمان به وإلى تنفيذ منهجه؛ ولذلك جاء في معنى قوله (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ) معنيان:
-
(فَلِذَٰلِكَ) أي: فإلى ذلك الذي أوحينا إليك وشرعنا لك من الدين ووصينا به الأنبياء من قبلك (ادْعُ) .
-
والمعنى الثاني: فلذلك لأجل تفادي ما يحصل من هذا الإنحراف وانجراف الناس وراء الأهواء والشهوات، أقم الدعوة حتى يُحفَظ مَن يحفظ ومن يأذن الله بحفظه بواسطة الدعوة.
فإن الدعوة من أقوى أسباب حفظ عقل الإنسان وقلبه أن يزيغ أو أن ينحرف، أو تطغى عليه الشهوة والهوى.
وكلما أصغى إلى قول الداعي، وكلما وجد من ورثة رسول الله ﷺ مُمَكَّنًا وراسخا؛ فبقوة إصغائه إليه يَبْتَنِي حصن الأمن للعقل والقلب من التأثر بخديعة إبليس وجنده وطغيان النفس والهوى. وبذلك جاءت حكمتهم وقالوا: من لم ير وجه مُفلِح كيف يُفلِح؟! ومن نظر إلى وجه مفلح -أي: على الوجه المطلوب الرائق- كيف لا يفلح؟!
يقول: (فلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، وهذه من أعظم ما يهز فؤاد زين الوجود ﷺ: الأمر بالاستقامة؛
-
لعظمة معرفته بالله وعظمة الله.
-
وأنه لا يقوم بحق الله أحد.
-
وأنَّ الله رضي من عباده ما استطاعوا.
-
وأنَّ صدق الإنسان والمخلوق مع الخالق من جميع الوجوه عزيز.
ولذا لمَّا رآه بعض الصالحين يقول: يارسول الله جاء في الحديث قلت: "شيَّبتني هود وأخواتها". قال: نعم. قال: هل شيَّبك منها ذكر هلاك الأمم؟ (أَلَا بُعۡدࣰا لِّعَادࣲ قَوۡمِ هُودࣲ) [هود:60]، (أَلَا بُعۡدࣰا لِّثَمُود)[هود:68]، (أَلَا بُعۡدࣰا لِّمَدۡیَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُود) [هود:95]. قال: لا، قال: فما الذي شيَّبك منها؟ قال: قوله: (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَاۤ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَك) [هود:112]؛ هذا الذي شيَّبني"؛ لأنه لمَّا لاحظوا ظهور بعض الشيب فيه، مع أنه لم يتجاوز الشعرات ما بين رأسه وعارضيه ولحيته سبعة عشر شعرة بيضاء، وقالوا: شِبْتَ يا رسول الله! قال: "شيَّبتني هود وأخواتها". وجاء في روايات ذكر الأخوات: "القارعة والحاقة وعمَّ يتساءلون" وفي بعضها ذكر سور أخرى.
ففي هذه الرواية يقول له قوله تعالى: (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَاۤ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡا۟ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ) [هود:112]، "هذا الذي شيبني"؛ أنه يعرف عظمة الله، ويعرف واجب العبد نحو ربه، وأن العبد لا يقوم به؛ ولكن الذي رَضِيَ الله به منه -وهو الصدق فيه وبذل الوسع- عزيز أن يُتِم على وجهه في البرية إلا من رحم الله.
قال: (فلِذَٰلِكَ فَادْعُ) فوجود الدعوة أمرٌ مهم وضروري، وبيَّن ذلك ﷺ في مثل ما جاء في الحديث:"ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم، ولا يُعلِّمونهم،…، وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمون من جيرانِهم،…، والله ليُعَلِّمنَّ قومٌ جيرانهم،…، ولَيَتَعَلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم،…، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ"، يعني متجاورين في المساكن، هؤلاء علماء وهؤلاء جُهَّال، ولا هؤلاء يعلمون هؤلاء ولا هؤلاء يتعلمون من هؤلاء. قال: هذا مسلك باطل يوقع الجميع في الإثم،
"ليتعَلَّمَنَّ قومٌ من جيرانهم وليُعَلِّمُنَّ قومٌ من جيرانهم أو ليُعَذِّبَنَّهُم الله"، فلا بد من قيام الدعوة إلى الله بأوجهها؛ أداءً للأمانة، ورحمةً من الله بعباده، كلف كل من آمن به وعلم شيئًا من شرعه أن يُعلِّمه، وأن يختار لتعليمه أرفق الوسائل وخير الأساليب، قال لسيدنا موسى وهارون: (ٱذۡهَبَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلࣰا لَّیِّنࣰا لَّعَلَّهُۥ یَتَذَكَّرُ أَوۡ یَخۡشَىٰ) [طه:43-44].
(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) كما أنك تدعو بقولك فلتكن بحالك وفعلك أيضًا داعيًا بالاستقامة (اسْتَقِم) اثبت، وقم بالواجب كما أحببنا منك وكما ندبناك إليه (واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ..(15)) من قِبَلِ إلهك، فلا تلتفت إلى أعرافهم ولا إلى باطل موازينهم، ولا تتبع أهواءهم؛ يقولون هذا نظامنا وهذا فكرنا، من أنتم؟ الحقُ ما قاله الله الحق، ولا ميزان لقوانينكم ولا لأنظمتكم مهما خالفت كلام الحق لا ميزان لها من أنتم؟ لا خلقتمونا ولا خلقتم الأرض ولا خلقتم السماء، من أنتم؟ حتى تضاهوا كلام الله؟ وحتى تجعلون أنفسكم آلهة مع الله؟ لا إله إلا الله.
(فلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ..(15))؛ فإن هذا باب الفساد، اتباع الأهواء سواءً هواك أو هوى غيرك من باب أولى، وأهواء الكفار رسموها في خططهم وبرامجهم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، وقال له في الآية الأخرى: (وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُون * إِنَّهُمۡ لَن یُغۡنُوا۟ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۚ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۖ وَٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلۡمُتَّقِینَ * هَـٰذَا بَصَـٰۤىِٕرُ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ * أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ ٱجۡتَرَحُوا۟ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَوَاۤءࣰ مَّحۡیَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ) [الجاثية19-21]، لا المحيا سواء ولا الممات سواء
ولما قال أبو سفيان أيام كفره في غزوة أحد: "يوم بيوم بدر، أجابوا الصحابة قالوا: لا، سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"، ما معنى يوم بيوم بدر؟ يوم بدر دخلتم النار ونحن يوم أحد دخلنا الجنة، كيف سواء؟ ذاك كله عليكم لا شيء لكم، ورجع يقول: "إن لنا ، العُزَّى ولا عُزّى لكم، قال أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم"، اذهب؟ خلِّ العزى تنفعك أو ترفعك أو تعطيك شئا، معنا الله القوي القادر
قال: (فلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ..(15)) وأعلنها، قل: أنا أدركت الحقيقة، فما عقلي ولا مساري وسلوكي للبيع، لا أحد ما يبيع لي ربي ولي إله خلقني وأوجدني ورفع السماء من فوقي ودحى لي الأرض ومهدها وأنزل لي منهجا أمشي عليه، ما نبيع لكم كل واحد سيأتي خبرا من عنده، سيأتي نظاما من عنده، من أنتم؟ قل وأعلن، (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ) الكتب المنزلة من السماء كلها، الكتاب الذي نزل عليه آمنت بكتب الله كلها، هذا مسلكي، هذا منهجي، هذا نظامي، هذا قانوني،
-
(آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أبلغكم الحق لا أزيد ولا أنقص ولا أكلفكم ما لم يكلفكم الله.
-
(وأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) لا أتحامل على أحد منكم ولا أفرق بينكم، بل أبلغ الجميع وأحرص على الجميع.
-
(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) إنْ تخاصمتم إلي وترافعتم إلي حكمت بينكم بالعدل والحق؛ فهذا نظام ربي أمرني أن أكون بهذه الصورة.
فهل في وجود مثل هذا العنصر في أي مجتمع أي ضرر على المجتمع؟ أمْ أَنْ في وجوده الفائدة والخير للمجتمع؟ (أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، كما قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، ويقول للمؤمنين كلهم: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ) -ما قال بين المسلمين، بين المؤمنين- (بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
لهذا اهتزَّ بعض علماء اليهود من كلمة سيدنا عبد الله بن رواحة، ولما ملك النبي ﷺ خيبر، ثم أقرَّ اليهود على أن يبقوا فيها ويعملوا ولهم نصف الثمرة، فكان يرسل إليهم سيدنا عبد الله بن رواحة لِيَخْرُصْ أي: يقدر التمر الذي في النخيل، كم تطرح هذه النخلة؟ ومقدار كم تضع هذه النخلة؟، فيمر عليها وهو من أهل الخبرة فيُقَدِّرها تقديرا دقيقا. فحاول اليهود كما هي عادتهم وعادة أنواع المنحرفين والشاذين يدبروا حيلة ويزيدوا وينقصوا؛ يقولون أغروه بشيء -يعطونه إياه- يقول: ها أنا أقبل الرشوة؟! وهددوه وبعثوا للنبي إِنَّ صاحبك يجحف علينا، فلما جاء عرض هذا الشيء، قال: "أما إني جئت من عند أحب الناس إليك هو رسول الله ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القرود، ووالله لا يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن أزيد في التقدير حبة ولا أُنقِص حبة".
لا نفع فيه تهديد ولا نفع فيه إغراء. وسمعوا هذا الكلام منه وسمعوه بعض علماء اليهود فقالوا: بهذا العدل قامت السماوات والأرض، بهذا العدل قامت السماوات والأرض؛ هذه تربية محمد ﷺ. قال: مع أني أكرهكم لكن والله ما أظلمكم ولا أزّيِّد عليكم مقدار حبة واحدة، مع أني أحبه لكن ما أُحَابِيه وأُزَيّد عليكم شيئا من أجله، فلا اُنقِّص ولا أزيد، وأمرت لأعدل بينكم: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ) [النساء:58] بين الناس، ما هو بين المسلمين! بين الناس كلهم، بين كافر وكافر، بين كافر ومسلم، بين مسلم ومسلم؛ عدل. أُعطى كل ذي حق حقه، هل في نظام أحسن من هذا؟ هل في قانون أجمل من هذا وأعدل من هذا؟ فلماذا يريدوننا نتبعهم؟
(وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ..(15)) فنحن نخاف هذا الإله آمنا به وصدَّقناه، ولهذا لا نُجحِف عليكم، ما هو من شأنكم ولا من خوف منكم، ومهما تمكنَّا عليكم وقدرنا؛ نحن نُراقِب الرب؛ لأنَّا آمنا به إيمان صدق وحق، ما هو باللسان ولا صورة، نحن آمنا بأنه إله، إله بمعنى إله بمعنى رب، مرجعنا إليه يطلع على ظواهرنا وبواطننا ويحيط بنا، نحن نوقن بهذا، ولهذا يتترجم في هذه المعاملة.
قال: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) فيطَّلع على كُلٍّ مِنَّا ويُحيط بكل مِنَّا، ومرجع كل منَّا إليه ويحكم بيننا يوم القيامة، ولأجله نحن لا نُجحِف ولا نظلم أحد.
ولمَّا رأى سيدنا عبد الله بن مسعود قوما من المسلمين في الشام يستغلون أهل الجزية من أهل الكتاب ويُحمِّلونهم أحمالا، يقولون: احملوا هذا للمكان الفلاني، فأحسَّ سيدنا عبد الله بن مسعود ونزل من على دابته وأوقفهم قال: أخرجِوا الأحمال، حمِّلوا أحمالكم بأنفسكم، هؤلاء أهل ذمة، أتُغفَر ذمة الله ورسوله؟ قال: أهل ذمة عايشين معنا يُسَلِّموا الجزية، لهم حرماتهم لا أحد يستغلهم؛ هذا الدين، هذا منهج سيد المرسلين، قال: لا تُغفَر ذمة الله ورسوله، هؤلاء لهم ذمة، لِمَ تكلفونهم يحملوا لكم؟ أسألهم: هل أنتم راضون بأجرة أو بغير أجرة؟ قالوا: لا هم يُكلِّفوننا، قالوا: أنزلوا الأحمال! و قال للجماعة: امضوا احملو حملكم لا تُكلِّفوا الناس مالا يطقون، هؤلاء لهم ذمة الله ورسوله هم كفار؛ لكن العدل في الدين، الله أكبر! ما هناك نظام أحسن من هذا ولا أصلَح للبشرية، ولكن أُهمِل وتُرِك وأُضِيع ونُوزِع بأنظمة الإجحاف والظلم والعدوان.
(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ..(15))؛ لا بنتحاسب على ما عملتم ولا بتحاسبون على أعمالنا ولا أحد سيأخذ ثواب الآخر ولا وِزْر الآخر وعقوبته، كلٌّ سيجازى على عمله:
-
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
-
كما قال في الآية الأخرى (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) [النساء:123]، قالوا أهل الكتاب: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) [البقرة:80]، و: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة:18]، فقال: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123].
كانت عندنا طفلة -رحمها الله- كانت بعض المسيحيات الكافرات جئن هنا قبل سنوات، يتكلمن مع النساء .. قالت: الآن أنتم تقولون الجنة خاصة لكم المسلمين وحدكم؟ لا أحد يدخل غيركم، كيف هذا؟ تريد تُشكك..، وإذا بطفلة قالت لها: لا، الجنة لمن أطاع الله والنار لمن عصاه، ولو حتى مسلما عصى الله، ما فعله من المعاصي سَيُدْخِله النار أولا الجنة لمن أطاع والنار لمن عصى، قالت المرأة: أوه ستطلع هذه الطفلة شيخة كبيرة!
الفلسفة حقها كلها روَّحت قدام طفلة؛ تريد تقول تحصرون الجنة لكم؟! لا نحن ولا أنتم نُحَصِّل الجنة، ولا نحن خلقناها ولا أنتم، خالقها هو الذي يُحَدِّد من يدخل ومن لا يدخل، فقالت لها: ماعندنا عنصرية ولا نملك، قالت: هذه الله خلقها لأهل طاعته وهذه لأهل معصيته؛ إذا أنت عصيته ستدخل النار وإن أطعته ستدخل الجنة، وهذا هو الحق.
قال: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) لا خصومة فالأمر واضح: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256]. وما هناك داعي للخصومة والمحاجات الباطلة (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]. والجزاء سيجيء لكل واحد (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة:256-257]؛ وكلٌّ يلاقي جزاءه.
(لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) في يوم القيامة سيجتمع الكل (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة:49-50]، (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)) إليه مصيرنا أجمعين.
ويُروى في الحديث أيضًا فيما جاء في بعض كتب ابن حبان عن الحسن البصري قال بعض أصحاب النبي ﷺ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ شِئْتُمْ لأَُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ"، هؤلاء أحب العباد إلى الله وأعظمهم جزاءًا وقربًا من النبيين -الله أكبر-
وهُدَاةُ النَّاسِ خِيَارُهُمُ ** وسِوَاهُمُ مِن هَمَجِ الهَمَجِ
"اغْدُ عالِمًا أوْ مُتَعَلِّمًا أوْ مُسْتَمِعًا أوْ مُحِبًّا وَلَا تَكُنِ الخَامِسَةَ فَتَهْلَكَ"، لا عالما ولا متعلما ولا مستمعا ولا محبا، ماذا تريد؟! هلاكا؟! فلا تغد في يوم من الايام الله إلا وأنت عالم أو متعلم أو مستمع أو مُحِب أقلُ ما يكون.
فالله يُحقِّقنا بحقائق الصدق معه والإقبال عليه والمحبة له والمحبة منه، ويرضى عنَّا ويرزقنا الرضوان الأكبر، ويتولانا فيما بطَنَ وما ظهر.
اللهم بالقرآن ومن أنزلته علينا حقِّقنا بحقائق اليقين، وأدخلنا في دوائر الصالحين، وثبتنا على ما تحبه مِنَّا وترضى به عنَّا يا أكرم الأكرمين، واجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبيك الأمين، في لطف وخير وعافية وتمكينٍ مكين، وأنقذ المسلمين، وحوِّل حالهم إلى أحسن حال، ورُدَّ عنهم كيد المعتدين والظالمين والغاصبين والمفترين والمفسدين.
يا قويُّ يا متين يا حيُّ ياقيُّوم يا حيُّ ياقيُّوم يا حيُّ ياقيُّوم، بِبَدرٍ وأهل بدرٍ الذين حضروا مع نبيك البدر، انظر إلينا وإلى أمته، يا حيُّ ياقيُّوم اكشف الغمة ورُدَّ كيد الذين يؤذون المسلمين، والذين يمنعون عن الناس طعامهم وأغذيتهم، والذين يقصدون أماكن الآمنين فيُرَوِّعونهم، اللهم رُدَّ كيد أولئك الكفار والفجار المعتدين في نحورهم، ومزِّقهم كل ممزق، واجعل كيدهم في تضليل، واجعلهم كعصف مأكول، يا قوي يا متين، يا حي يا قيوم، تدارك أمة نبيك محمد، وأغث أمة نبيك محمد بالغياث العاجل.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
17 رَمضان 1446